افتتح الأمين العامّ لـ”حزب الله” السيّد حسن نصر الله المعركة الانتخابية. ساحة المعركة، كما هو واضح، هي الشارع المسيحيّ، لكنّ موضوعها الأساس هو “حزب الله”.
لا تريد إيران انتكاسة انتخابية أخرى في لبنان فيما يُعاد ترتيب التوازنات في الإقليم، بشدّ الحبال بين إيران والمجتمع الدولي من جهة، وبالمحادثات المباشرة بين طهران والرياض من جهة ثانية، وبالمعارك التي لا تزال رحاها دائرة في جبهات عدّة من جهة ثالثة.
كانت أولويّة نصر الله في خطابه الأخير إخراج عون من الزاوية التي حُشِر فيها مسيحيّاً. بدا الأمر وكأنّه افتتاح لحملة جبران باسيل الانتخابية في موضوعها الأهمّ
لا يمكن عزل المشهد اللبناني عمّا جرى في العراق. تعرّضت إيران لانتكاسة انتخابية واضحة هناك، مع خسارة حليفها الأساسي “ائتلاف الفتح” ثلثيْ مقاعده. وعلى الرغم من أنّ جزءاً من هذا التراجع عائد إلى نزوح الأصوات إلى ائتلاف “دولة القانون” بزعامة نوري المالكي، إلا أنّ مجمل مقاعد الائتلافات التي انضوت ضمن “الإطار التنسيقي للقوى الشيعيّة” يبقى أقلّ من مقاعد كتلة الصدر وحدها، ولذلك أمام القوى الحليفة لإيران مهمّة شاقّة في جمع شتات ما أمكن من الكتل المتناهية الصغر والمستقلّين، ونسج التحالفات خارج البيت الشيعي لفرض الكلمة العليا في تشكيل الحكومة المقبلة.
ساحة المعركة الانتخابية في لبنان ليست في الشارع الشيعي، وليس منتظراً أن تكون كذلك. وهي ليست في الشارع السنّيّ، حيث يمكن لتيّار المستقبل أن يخسر أكثر قليلاً ممّا ربحه في الانتخابات الماضية، سواء في الدوائر المختلطة التي ذهبت المقاعد المسيحية فيها إلى القوى المسيحية، أو في الدوائر السنّيّة التي تقاسمها مع قوى أخرى مثل تيّار العزم و”اللقاء التشاوري” و”المشاريع”. ساحة المعركة هي الشارع المسيحي. هناك فقط يمكن (نظرياً) للتيّار الوطني الحر أن يكون “ائتلاف الفتح” اللبناني، بما هو ظهير مسيحيّ للحزب الموالي لإيران. قد يحدث ذلك بقليل من التقدّم لحزب “القوات” على حساب منافسه المباشر، وبتحوّل كتلة لا بأس بها للتصويت للمجتمع المدني، على نحو المقاعد العشرة التي ذهبت إلى قائمة “امتداد” الممثِّلة لـ”الحراك التشرينيّ” في العراق.
أرقام الانتخابات الماضية تعطي صورة لِما هو ممكن. وفقاً لإحصائيات كمال فغالي، حصد التيار الوطني الحر 8.8% من مجمل الأصوات التفضيليّة في لبنان، مقابل 7.9% لـ”القوات”. وكانت حصّة العونيين 25.1% من أصوات المسيحيين مقابل 23.1% لـ”القوات”. حدث ذلك حين كان الفريق العونيّ في ذروة “يوفوريا” الحكم والعهد القويّ والتوظيف الانتخابي والإنفاق على مصراعيه من ميزانيّات الوزارات. وتضاف إلى ذلك التحالفات الموضعية التي أعطت للتيار العديد من الحواصل الانتخابية، مثل التحالف مع “الجماعة الإسلامية” الذي منح العونيين مقعداً (ثانياً) في جزّين وآخر في عكّار. وفي كلّ الأحوال فإنّ الفارق بين العونيين وأقرب المنافسين يوحي للبعض في الداخل والخارج بأنّ الكتلة النيابية العونية “منفوخة” قياساً بحجمها الشعبي، وبأنّه بالإمكان إحداث تغيير في المشهد السياسي من هذا الباب تحديداً.
لا بدّ أن يكون كلّ ذلك في حسابات “حزب الله” والعونيين، لكنّ الحسابات تعقّدت بفعل ملفّ التحقيقات في تفجير مرفأ بيروت. أوقع الفريق العوني نفسه في مأزق حين ظنّ أنّ بإمكان القاضي السابق سليم جريصاتي أن يدير استخدام ورقة المحقّق العدلي طارق البيطار في البازار السياسي محليّاً، ومع السفارات. إذ إنّه سرعان ما وقع أسير التجييش الطائفي، فبات محشوراً على المستوى المسيحي في موقع لا يسمح له بالاستجابة لطلب “حزب الله” إقصاء البيطار عن الملفّ، فيما هو محشور أصلاً على المستوى السياسي في موقع لا يسمح له بمعاندة الحزب.
لذلك كانت أولويّة نصر الله في خطابه الأخير إخراج عون من الزاوية التي حُشِر فيها مسيحيّاً. بدا الأمر وكأنّه افتتاح لحملة جبران باسيل الانتخابية في موضوعها الأهمّ. قدّم “الشواهد” على أنّ حزب الله ضامنٌ للوجود (الأقلّويّ) المسيحي في سوريا ولبنان، وأعاد التذكير بدخوله كنيسة مار مخايل وتوقيع وثيقة التفاهم، كما لو أنّه أشبه بدخول عمر بن الخطاب كنيسة القيامة إبّان الفتح الإسلامي، وتوقيعه “العُهدة العمَريّة”!
الشارع المسيحي هو الأكثر تنافسيّة وحيويّة بين كلّ جماهير الطوائف بلا شكّ، وهو الأقلّ قابليّة للتنبّؤ في كلّ الاستحقاقات الانتخابية منذ عام 2005. فيه مكان للأحزاب، ومكان للبيوت التقليدية، مثل الخازن والبون ومعوّض وسكاف، ومكان لِما هو بين بين، مثل فرنجيّة وسعيْد، ومكان يسمح للقوى المدنية أن تخطف مقعداً في قلب الأشرفية. حين كان التنافس على أشدّه بين “14 آذار” و”8 آذار” كانت النتائج تُحدَّد على أساس عاملين: نسب المشاركة لدى كلّ طائفة، واتّجاه الصوت المسيحيّ. هكذا حسمت زحلة انتخابات 2009.
أمام هذا الشارع المسيحيّ اليوم خطابان: خطاب يقول له إنّ لبنان وقع في أزمة ماليّة واقتصادية خانقة نتيجة سيطرة “حزب الله” على الحكم وانضوائه في محور إيران، ومعاداته لدول الخليج التي هي مصدر تدفّقات السياحة والاستثمارات والمساعدات وموئل مئات آلاف اللبنانيين الذين يرسلون مليارات الدولارات إلى بلدهم كلّ سنة، وخطاب آخر جوهره أنّ “مستقبل المسيحيّين في الشرق مرهون بالتفاهم مع إيران، و”الخلفيّة” و”العمق” اللذين يوفّرهما النظام السوري”، على أساس تفاهم مار مخايل.
إقرأ أيضاً: “الشارع بالشارع”.. مجانينُ نحن اللبنانيّين
المشكلة في خطاب باسيل الانتخابي أنّه يقدّم نفسه كقوّة مدنيّة في مواجهة “ميليشيا القوات”، فيما يُفيد جوهر خطابه أنّ المسيحيّين ليس في وسعهم تشكيل ميليشيا، بل بإمكانهم توقيع اتفاقيّة “حماية” مع ميليشيا، ودفع الجزية السياسية. وإذ ذاك فقط أمكن لميشال عون أن يقع متعجرفاً في 7 أيار 2008 مهدِّداً قائد الجيش إذا تدخّل لمنع إحراق الدواليب!