..”الشارع بالشارع “.
كم لنا مع هذه العبارة من ثارات ودماء وآهات. قالها لنا سعد الحريري في 5 أيار 2008. صدّقناه وصمدنا في منازلنا في بيروت، في البسطة، والمصيطبة، وساقية الجنزير، والحمرا، والطريق الجديدة وكورنيش المزرعة، والكولا، والوطى، والبسطا الفوقا، وبرج أبي حيدر.
صدّقنا في حينه أنّنا بأمان، وأنّ شباب الزعيم وتيّاره يحرسون هذا المكان.
صدّقناه جدّاً، وخذلنا جدّاً جدّاً. اجتاح حزب الله بميليشياته بعد يومين في 7 أيار 2008 بيروت شارعاً شارعاً وزقاقاً زقاقاً وبيتاً بيتاً، حتى باتت مدينتنا محتلّة. وزعيمنا في منزله بقريطم جالسٌ جلوساً يقارب الاعتقال.
الوطن مهدّد بالفتنة، والمطلوب هو بحثٌ عن مبادرة إنقاذيّة، وليس عمّن يزيد ويشارك في إذكاء نار الفتنة. الناس بحاجة إلى وطن وليس إلى شارع
بعد 13 عاماً، عاد البعض إلى مقولة “الشارع بالشارع”. قالها عشية فتنة الطيونة سمير جعجع قائد القوات اللبنانية الذي لم يتحرّك هو وأنصاره في 7 أيار عشرين متراً للدفاع عن بيروت. وقالها سامي الجميل رئيس حزب الكتائب الذي بدوره لم يغادر بيت الكتائب حين كانت القمصان السود تملأ محيطه. وقالها اللواء أشرف ريفي الذي كان قبل 13 عاماً مديراً عامّاً لقوى الأمن الداخلي، وقائداً لكلّ الأجهزة التابعة للأمن الداخلي. في 7 أيار لم يدافع أحد عن بيروت، وكانت القاعدة غير المُعلَنة من قبل المحتلّ أنّ مَن دخل مديرية قوى الأمن الداخلي فهو آمن، ومَن التزم منزله فهو آمن.
.. “الشارع بالشارع”، هو سعيٌ للتكامل مع صورة الآخر، الآخر الذي أعلنّا خصامه نحن السياديّين المفجوعين بحرق رفيق الحريري وقتله في وسط المدينة منذ عام 2005. ارتدينا البزّات الرسميّة وربطات العنق، ووضعنا العطر كي نشيِّع الرفيق، ثمّ حملنا المربّعات الملوّنة كي نرسم أكبر علم لبناني، وركبنا الدرّاجات الهوائية منظِّمين السباقات لنعلن رفضنا للسلاح غير الشرعيّ. لم نكسر شجرة ونحن نعتصم في الساحات. ولم نقتلع بلاطة، ونحن نرسل الصرخات والشعارات. كان شارعنا وطناً، ولم يكن زقاقاً.
.. “الشارع بالشارع”، هي الشراكة الكاملة في صناعة الفتنة بتوريط الناس وبإشعال الأوطان. كلّ واحد من هؤلاء ليس بقادر على حماية صورة زعيم، ولا على حماية صورته إن عُلِّقت في مدينته أو قريته أو في الشارع الذي وُلِد فيه، فكيف يذهب إلى توريط الناس في الفتنة؟
كلّ واحد من هؤلاء لم يعُد مسموعاً عند الناس، ولم تعُد الناس قادرة على فهمه إنْ استمعت إليه.
الوطن مهدّد بالفتنة، والمطلوب هو بحثٌ عن مبادرة إنقاذيّة، وليس عمّن يزيد ويشارك في إذكاء نار الفتنة. الناس بحاجة إلى وطن وليس إلى شارع. وشوارعنا بحاجة إلى ماء تروي جفاف وسطيّاتها الخضراء، وليس إلى شوارع تُسقى أرصفتها بدماء الأبرياء.
“الشارع بالشارع”.. مجانين نحن اللبنانيّين. لا الحروب تُعلِّمنا، ولا سفك الدماء يدفعنا إلى النضوج، ولا الدمار يجعلنا نحافظ على ممتلكاتنا
الفتنة يا سادة “الشارع بالشارع” ملعونةٌ، وملعونٌ من أيقظها. وضمير الفاعل في أيقظها لا يعود هنا إلى شخص واحد أو لواء واحد أو جهة واحدة أو مرجعيّة دون غيرها من المراجع، أكانت رسميةً أو قضائيةً أو سياسية.
كلّنا نحن اللبنانيّين شركاء في إيقاظ الفتنة. كلّنا لنا في إيقاظها نصيب، عندما استنكرنا على المجلس الشرعي الأعلى برئاسة المفتي عبد اللطيف دريان أن يتحدّث بالعدالة ولبنان الرسالة، وعندما كتب أحدنا رابطاً بين البيطار ومصير العيش المشترك والشراكة، وعندما اعتقلنا ضحايا المرفأ في معبدٍ لطائفة، وتقدَّم الثأر على القانون والدستور، فعدنا عشائر وقبائل، ونسينا أنّنا شعب واحد يُحكَم بالقانون.
ملفّ انفجار المرفأ هو ملفّ قضائيّ 100%. لا جدال في ذلك. إلا أنّ النقاش في الملفّ من كلّ الأطراف، حتى من المرجعية القضائية للملفّ، هو نقاشٌ غير قانونيّ. كلّ فريق يضع النتيجة التي تلائم مصلحته، ويذهب بالنقاش إلى حيث يصل إلى تلك النتيجة. هذا لا يعني أنّ إحدى النتيجتين ليست بالنتيجة الصحيحة، لكنّ جوهر النقاش الحاصل هو نقاش غير قانونيّ.
“الشارع بالشارع”.. مجانين نحن اللبنانيّين. لا الحروب تُعلِّمنا، ولا سفك الدماء يدفعنا إلى النضوج، ولا الدمار يجعلنا نحافظ على ممتلكاتنا.
نحن شعب امتهن الفتنة حتى بات رائداً في إثارتها.
في اليوم الأول ما بعد فتنة الطيونة، انسحب القناصون من أسطح المباني في عين الرمانة وانسحب المسلحون من أزقة الشيّاح. وبقي عند مستديرة الطيونة جيشٌ يحاول لملمة ما عجز أو تكاسل عن لملمته قبل حدوثه وحكومة لا تدري إلى أين هي ذاهبة استقالة فتصريف أعمال أو تعليق لجلساتها كي لا تنفجر من الداخل.
عند مستديرة الطيونة انسحب المقاتلون وبقي الخائبون جيشٌ وحكومة وشعب يضرب كفاً بكف.
إقرأ أيضاً: الشارع “يَبلَع” البيطار: هل يتنحّى بنفسه؟!
صديق عزيز اعتدت الوقوف على رأيه عند الأزمات اتصلت به سائلاً: “ماذا يحصل؟”، فقال: “المسيحيون لم يصدقوا أنّ حزب الله مستعدٌ للاصطدام بهم، وحزب الله لم يصدق أنّ المسيحيين مستعدّون للصدام معه. والنتيجة كان الصدام المفاجئ بين الطرفين في منطقة الطيونة”.