هذا ما تطلبه السعوديّة من لبنان (1/2)

مدة القراءة 7 د

كتب نزار قباني في كتابه “الكتابة عمل انقلابيّ” ردّاً على مَن يكره العرب والعروبة: “إنّ اللغة العربيّة تضايقهم لأنّهم لا يستطيعون قراءتها.. والعبارة العربيّة تزعجهم لأنّهم لا يستطيعون تركيبها.. وهم مقتنعون أنّ كلّ العصور التي سبقتهم هي عصور انحطاط، وأنَّ كلّ ما كتبه العرب من شعر منذ الشنفرى حتى اليوم.. هو شعر رديء ومنحطّ.. تسأل الواحد منهم عن المتنبّي، فينظر إليكَ باشمئزاز كأنّك تحدّثه عن الزائدة الدوديّة، وحين تسأله عن “الأغاني” و”العقد الفريد” و”البيان والتبيين” و”نهج البلاغة” و”طوق الحمامة” يردّ عليك بأنّه لا يشتري أسطوانات عربيّة ولا يحضر أفلاماً عربيّة.. إنّهم يريدون أن يفتحوا العالم وهم عاجزون عن فتح كتاب.. ويريدون أن يخوضوا البحر وهم يتزحلقون بقطرة ماء.. ويبشّرون بثورة ثقافيّة تحرق الأخضر واليابس.. وثقافتهم لا تتجاوز باب المقهى الذي يجلسون فيه.. وعناوين الكتب المترجمة التي سمعوا عنها..”.

.. تتحدّث المملكة العربية السعودية منذ ما يقارب خمس سنوات بلغةٍ عربيةٍ فصيحةٍ لا تجيدها منظومة الحلف الحاكم في لبنان، التي يبدو أنّها تعمد بفعل جهلها لهذه اللغة إلى الاستعانة بخدمة الترجمة في “موقع غوغل”، فتضع تصريحات المملكة ونصائحها ونداءاتها في الخانة المخصّصة للترجمة ضمن هذه الخدمة، فتحصل على جمل مفكّكة غير واضحة، ممّا يُسقط عنها دقّة المعنى المقصود، وبالتالي يغيب عن هذه المنظومة الفهم والتفهّم لِما تقوله المملكة بوضوح.

لقد قدّمت المملكة العربية السعودية لكلّ المسؤولين اللبنانيين الرسميين وغير الرسميين، وعلى رأسهم رئيس الجمهورية العماد ميشال عون عندما زارها بعد انتخابه، النُصح وآليّات التعاون

تتولّد عند الساسة اللبنانيين، بفعل غياب الفهم والتفهّم، انطباعات ومواقف لا تمتّ إلى الحقيقة بصِلة. تبدأ من المنضوين تحت ما يسمّى بمحور الممانعة، الذين يتّهمون المملكة بحصار لبنان وتجويع أهله، وتنتهي بمَن يُفترض بهم أن يكونوا حلفاء المملكة الذين يتّهمونها بأنّها منكفئة عن لبنان غير مبالية بما يحدث فيه.

مخطئ مَن يظنّ أنّ المملكة منكفئة عن لبنان، وهو ما ظهر في اليومين الفائتين من خلال سيل من المقالات في الصحف والمواقع التي تتناول القضية. فقد عمد كلّ محلّل وصحافي أو صحافية إلى الاستبصار والتبصير في أسباب هذا الانكفاء وكأنّه حقيقة ثابتة، فيما الحقيقة في مكان آخر. والحقيقة هنا ليست وجهة نظر، فالمملكة دعت المسؤولين اللبنانيين إلى توقيع أكثر من 22 اتفاقاً، وعمل سفير المملكة في بيروت وليد البخاري بصمت بعيداً عن الإعلام طوال سنة وثمانية أشهر، إلا أنّه وُجِدَ هناك دائماً مَن يعطِّل هذه الاتفاقات من المسؤولين اللبنانيين لمآرب واضحة.

يخطئ اللبنانيون عند وضع مفردة الانكفاء في سياق الحديث عن علاقة المملكة العربية السعودية بلبنان. والخطأ يحدث في الخلط ما بين الفاعل والمفعول، حيث يَفترض اللبنانيون أنّ الانكفاء فعلٌ، الفاعل فيه السعودية، فيما الصواب أنّ الفاعل لهذا الفعل هم اللبنانيّون أنفسهم.

بعيداً عن غياب الفهم والتفهّم، ثمّة حقيقة يغفل عنها كلّ اللبنانيّين، وهي أنّ المملكة العربية السعودية تغيّرت في السنوات الأخيرة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ووليّ عهده الأمير محمد بن سلمان، في حين أنّ اللبنانيين لم يتغيّروا.

تنظر المملكة العربية السعودية إلى المستقبل محاكية الأعوام العشرة المقبلة ضمن رؤية 2030، فيما ينظر اللبنانيون إلى الماضي محاكين العام 1982، مستحضرين صور آليّات شركة “سعودي أوجيه” ترفع الردم والدمار الذي خلّفته الحرب الأهلية في وسط بيروت، مطلقةً مرحلة إعادة الإعمار والسلام بعد اتفاق الطائف. يستحضرون شعار تلك الشركة العملاقة، وهو يزيّن تلك الآليّات، متغافلين عن أنّ القضاء السعودي قام بإعلان إفلاس هذه الشركة وبيع عقاراتها سداداً لديون المصارف.

انتقلت المملكة العربية السعودية بقيادة الأمير محمد بن سلمان وليّ العهد من منطق العلاقات الشخصية في التعامل مع الدول إلى الشراكات الاستراتيجية في كلّ مسار، وذلك عبر ترسيخ السياسات الضامنة من خلال مأسسة العلاقات الثنائية بين المملكة والدول الشقيقة والصديقة.

هي مأسسة تطول كلّ المجالات الاقتصادية والسياسية والأمنيّة والثقافية عبر تغليب منطق الدولة بعيداً عن أسماء أو هويّة السياسيين الذين يصلون إلى المواقع الرسمية وغير الرسمية.

إنّ المملكة العربية السعودية لا تنظر إلى أزمتها مع لبنان على أنّها قضية شخصية، فلا هذه عادتها، ولا وقتها يسمح بذلك

إنّ رؤية المملكة للعلاقة مع لبنان لا تطلب من اللبنانيين أن يميّزوها عن الآخرين، لكنّها في الوقت نفسه لا تقبل إلا أن تُعامَل بمنطق الدولة، وهو ما يعجز عن قراءته السياسيون والإعلاميون في لبنان.

لا توجد عبر تاريخ المملكة علاقةٌ بينها وبين أيّ دولة أخرى تتميّز بتجذّرها وبكلّ مرتكزاتها كما هي حال العلاقة التي ربطت المملكة بلبنان. هي علاقةٌ بدأت مع أمين الريحاني وشكيب أرسلان قبل الاستقلال، وترسّخت مع حسين العويني بعد الاستقلال، وأنبتت زرعاً مع صائب سلام ومقاصده، ثمّ تحوّلت إلى جوهرة نفيسة مع رفيق الحريري بعد اتفاق الطائف.

تنظر المملكة إلى الأزمة مع لبنان عبر التالي:

1- ارتباط قرار الدولة اللبنانية بأجندات خارجية.

2- ضمّ الحكومات المتعاقبة لمكوّن سياسي تصدر منه سياسات عدائية تجاه المملكة، وهو ما يتعارض مع القوانين الدولية والمواثيق والأعراف.

3- تحوّل لبنان إلى منصّة إعلامية عدائية تجاه المملكة ودول الخليج.

4- سكوت المسؤولين اللبنانيين على الاعتداءات التي تطول المملكة من قبل أطراف لبنانية، والتي وصلت إلى حدّ مطالبة حزب الله عبر أمينه العام في مهرجان لبناني الشيعة في العالم بقتال المملكة، ما يعني بلغة الدبلوماسية والسياسة والقانون الدولي إعلان حرب صريحة ضد دولة لها سيادتها واستقلالها.

شارك حزب الله، أحد مكوّنات الحكومة اللبنانية، على مرّ السنوات الكثيرة الماضية، الحوثيين الذين ساعدهم تدريباً وتوجيهاً وتنفيذاً، في إطلاق أكثر من 390 صاروخاً باليستيّاً إيرانيّ الصنع باتجاه أراضي الحرمين الشريفين وشركة “أرامكو” ومدن وأحياء سعودية عديدة. تعامل معها المسؤولون اللبنانيون إمّا بالصمت تجاهلاً أو شماتةً وإمّا بتحوّل أحد المسؤولين الكبار إلى مغرّدٍ ككل المغرّدين على تويتر، فيما كان واجبه أن يُصدر بصفته الرسمية المتميّزة بياناً رسمياً واضحاً يدين هذه الاعتداءات، معلناً فيه رفضه، بما يمثّل رسمياً وشعبياً، لهذه الجرائم المرتكبة.

لقد قدّمت المملكة العربية السعودية لكلّ المسؤولين اللبنانيين الرسميين وغير الرسميين، وعلى رأسهم رئيس الجمهورية العماد ميشال عون عندما زارها بعد انتخابه، النُصح وآليّات التعاون، موضحةً للجميع سبل الوصول إلى علاقات سليمة وصحيحة مفيدة للبلدين. إلا أنّه لم يستجِب أيّ مسؤول لذلك، فضاع هؤلاء المسؤولون بين مُضَلَّلين أو مُضلِّلين.

إقرأ أيضاً: البخاري للّبنانيّين: هذه يدنا.. أين يدكم؟

مارست المملكة مع لبنان، على الرغم من كلّ هذا الاعتداء، دبلوماسية التهدئة، ففسّر اللبنانيون هذه التهدئة على أنّها انكفاء وضعف، فيما هي في الحقيقة قوّة في الرؤية.

إنّ المملكة العربية السعودية لا تنظر إلى أزمتها مع لبنان على أنّها قضية شخصية، فلا هذه عادتها، ولا وقتها يسمح بذلك. إنّ الأزمة واضحة، وحلّها أوضح. وكلّ لبنانيّ مسؤول قادرٌ على صياغة هذا الحلّ إن استطاع أن يقدّم السياسات الضامنة. هو قادر على جذب ثقة المملكة لا أكثر ولا أقلّ، والأمر غير متعلّق بفلان أو علّان، بل متعلّق بأفعال وأعمال.

 

غداً: قصة 630 مليون حبّة كبتاغون أهداها لبنان للمملكة.

مواضيع ذات صلة

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…

أكراد الإقليم أمام مصيدة “المحبّة” الإسرائيليّة! (2/2)

عادي أن تكون الأذهان مشوّشة خارج تركيا أيضاً بسبب ما يقوم به دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية وحليف رجب طيب إردوغان السياسي، وهو يدعو…

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…