ليس هناك من توقيت أصحّ وأدقّ حتى يُلامس مستوى التاريخيّة أفضل من التوقيت الذي حدّده سفير المملكة العربية السعودية في لبنان وليد البخاري للاحتفال بمناسبة مرور 100 سنة على العلاقة بين المملكة والبطريركيّة المارونية.
فقد جاء الاحتفال في الصرح البطريركي في بكركي وسط تزاحم الأسئلة الضاغطة، المصيريّ منها والبنيويّ، حول لبنان وبنيته وبنيانه وعلاقاته الداخلية والخارجية. أسئلة تبدأ من العروبة، مروراً بالدور العربي داخل وطن الأرز والعلاقات بين المملكة العربية السعودية ولبنان، وتنتهي بالعقد الاجتماعي، الذي يربط المواطنين اللبنانيين، ومصير اتفاق الطائف.
أسئلة كانت الاحتفالية، بسبب توقيتها، قادرة على تقديم إجابات سريعة وحاسمة عليها، لا بل تمكّنت أن تشكّل منصّة لإرسال رسالة، إلى مَن يعنيهم الأمر، عمّا وصلت إليه العلاقة بين البلدين من ضعفٍ وهوانٍ وتشوّهات.
قالها السفير البخاري بدقة إنّ هويّة لبنان عربية، ونقطة على السطر. لا حياة لحلف الأقلّيّات في لبنان، بل لحلف التعايش. وأيّة شراكة لبنانية سعودية لم تكن ولن تكون من أجل الانتظام في المحاور ولا في المعسكرات، بل من أجل ترسيخ المحبّة والسلام في الشرق
من تحت سقف الصرح البطريركي في بكركي، حيث إحدى الشرعيّتين المتبقّيتين في لبنان، حدّد السفير السعودي وليد البخاري خارطة الطريق لترميم العلاقات بين المملكة ولبنان:
1- الحفاظ على الوحدة الوطنية.
2- عدم العبث بالعلاقة بين لبنان وعمقه العربي بمحاور تمسّ بهويّة لبنان العربية.
3- لا شرعيّة لمفهوم الأقلّيّات أمام شرعيّة مسلمة ومسيحيّة.
4- الشراكة اللبنانية السعودية تحت مظلّة عربية ركائزها المحبّة والسلام.
5- المسيحي كما المسلم مكوِّن أساسيّ في الهويّة المشرقية.
6- اتّفاق الطائف هو الضمانة للجميع.
كان السفير البخاري واضحاً، في احتفالية بكركي، وهو يخاطب نخبة المجتمع اللبناني بتنوّعه الفكري والطائفي، في أنّ المملكة ما تركت لبنان يوماً ولن تتركه أبداً، إلا أنّ البعض من اللبنانيّين هم مَن تركوا لبنان، الذي يريده ويحلم به اللبنانيّون، من أجل أجندات غير لبنانية وغير عربية.
قالها السفير البخاري بدقة إنّ هويّة لبنان عربية، ونقطة على السطر. لا حياة لحلف الأقلّيّات في لبنان، بل لحلف التعايش. وأيّة شراكة لبنانية سعودية لم تكن ولن تكون من أجل الانتظام في المحاور ولا في المعسكرات، بل من أجل ترسيخ المحبّة والسلام في الشرق. إنّ موقف المملكة من المكوِّنات اللبنانية كان وسيبقى، كما أُرسِي في اتفاق الطائف، على قاعدة المناصفة والميثاقية. وإنّ المسيحي، كما المسلم، مكوِّن أساس لا غنى عنه.
المملكة العربية السعودية ما كانت يوماً في تاريخ علاقاتها مع لبنان في موقع جلب الضرر والمآسي للبنان وشعبه، لا بل لطالما كانت إلى جانبه في كل المحن
وضع السفير البخاري مبدأً بنيويّاً للسير في هذه الخارطة، عندما قال: “أمن المملكة في ظل قيادتنا الحكيمة خطّ أحمر لا يُقبَل المساس به”. هي القاعدة الوحيدة، التي حدّدها البخاري، لإعادة ترميم وصياغة جديدة أو متجدّدة للعلاقات بين المملكة ولبنان، وللسير بخارطة الطريق التي فنّدها.
إنّه أمن المملكة. هو المطلب الأساس والبوّابة الوحيدة للعبور إلى استعادة أيام السعادة والرخاء بين الدولتين. المملكة العربية السعودية ما كانت يوماً في تاريخ علاقاتها مع لبنان في موقع جلب الضرر والمآسي للبنان وشعبه، لا بل لطالما كانت إلى جانبه في كل المحن والاستحقاقات الصعبة منذ استقلاله حتى احتفاليّته بذكرى مرور 100 عام على إعلان دولة لبنان الكبير.
لا يمكن للبنان أن يتحوّل إلى قاعدة للاعتداء على أمن المملكة سياسياً وعسكرياً وإعلامياً. وهو مطلب ليس بالمطلب المستحيل، لا بل قاعدةٌ لأيّة علاقات سويّة بين دولتين شقيقتين أو دولتين يربطهما ما هو أقلّ من ذلك. هذه القواعد أرستها الشرعية الدولية التي نظّمت العلاقات بين الدول والمجموعات.
هي رسالة سعودية أطلقها السفير البخاري من بكركي في لحظة تاريخية مصيرية يمرّ بها لبنان بتوقيتها ومكانها. صرخة تلقّفها البطريرك الماروني بشارة الراعي في المناسبة نفسها، فأكّد أنّ “المملكة تفهم معنى وجود لبنان وقيمته بين الدول العربية”، مشيراً بشكل غير مباشر إلى أنّ أمن المملكة خطّ أحمر أيضاً بالنسبة إلى اللبنانيّين، حين قال: “أبناؤنا يهاجرون من أجل العمل لا السياسة، وهم رُسُل لبنان لا رُسُل دولة أخرى ولا مشروع آخر”. وذهب بطريرك الحياد إلى أبعد من ذلك عندما قال إنّ المملكة العربية السعودية “لم تعتدِ على سيادة لبنان يوماً، ولم تستبِح حدوده، ولم تورِّطه في الحروب، بل تعاطت مع لبنان محترِمةً خيار اللبنانيين وهويّتهم وتعدّديّتهم ونظامهم وتقاليدهم ونمط حياتهم”، وكأنّه يقول: “المملكة لم تعتدِ علينا، فكيف نعتدي عليها؟”. وفوق كلّ هذه المواقف كان لافتاً البطريرك الراعي بموقفه التاريخي الذي تجلّى في تعريفه للعروبة كما أظهرتها المملكة، فقال: “مع السعودية بدت العروبة انفتاحاً، واعتدالاً، ولقاءً، واحترامَ خصوصيّة كلّ دولة وشعب وجماعة، والتزامَ مفهوم السيادة والاستقلال. مع السعودية لم تبرز العروبة مشروعاً عقائدياً يتحدّى المشاعر الوطنية والخصوصيّات الحضارية. مع السعودية احتجب البعد الجغرافي أمام جيرة العقل والقلب”.
إقرأ أيضاً: السعودية ولبنان: الحكاية الكاملة
صرخة المملكة عبر السفير البخاري تلقّفها بطريرك الاستقلال الثالث. فهل يتلقّفها اللبنانيّون بكل طوائفهم ومذاهبهم وأحزابهم وتيّاراتهم كي ننقذ ما يمكن إنقاذه؟ الأمر ليس مستحيلاً، إذ يحتاج إلى الرغبة أوّلاً، والعزيمة ثانياً، وتحرير الشرعية دائماً.