“فخامة الرئيس، أستحلفك بأحفادك، الذين ترى الحياة في عيونهم، أن تنزل إلى الشارع وتستمع إلى شعبك وتعاين الذلّ الذي يعيشه. هل تقبل أن يموت إنسان جوعاً أو مرضاً في عهدك؟ هل تقبل أن يعاني طفل في عهدك؟ هل تقبل أن يُهان مواطن في عهدك؟ هل تقبل أن يضمحلّ لبنان في عهدك؟ والدعوة عينها موجّهة إلى رئيس الحكومة المستقيل منذ أشهر طويلة، ولم يقُم مع حكومته بأدنى واجبات الحكومة، ولم ينفطر قلبه وجعاً على حال اللبنانيّين، وإلى الرئيس المكلّف المطلوب منه التعالي على الأحقاد والخصومات، والإسراع في تأليف الحكومة رحمةً بالوطن والمواطنين، وإلى رئيس مجلس النوّاب ونوّاب الأمّة، فلربّما يدركون حجم الكارثة”.
الدعوة هذه أطلقها متروبوليت بيروت للروم الأورثوذكس إلياس عودة. كذلك فعل، كما عادته، البطريرك المارونيّ مار بشارة بطرس الراعي في عظة الأحد. فالراعي توجّه إلى المسؤولين، قائلاً لهم: “لا يكفي أن تعترفوا بعجزكم وضعف صلاحيّاتكم لتبرّروا المراوحة وتتركوا الأزمات تتفاقم والانهيار يتسارع، فالبلاد ليست ملكيّة خاصّة لكي تسمحوا لأنفسكم بتفليسها وتدميرها. هذه الدولة هي ملك شعبنا “.
تعلّم الحريري كثيراً من تجربة الاستقالة بعد انتفاضة 17 تشرين. يومئذٍ اتّخذ قرار الاستقالة منفرداً من دون التنسيق مع حلفائه. اليوم يحيط الحريري نفسه بأصدقائه وحلفائه، وبأجنحة طائفته كلّها
لهاتين العظتين دلالة كبيرة هذا الأسبوع. فلبنان مقبلٌ على تصعيد سياسيّ بين الرئاسة الأولى من جهة، والرئاستيْن الثانية والثالثة من جهة أخرى.
ستظهر معالم الانقسام في الأيام المقبلة، إن في تصعيد المواقف وإن في تصاعد الاشتباك السياسيّ الحكوميّ بانتظار إعلان اعتذار الرئيس المكلّف عن عدم إكمال مهمّته.
وفي قراءة شكل الانقسام بين القوى السياسية، لا بدّ من التوقّف عند تداعياته على الفريقين، فريق رئيس الجمهوريّة، وفريق رئيس الحكومة المكلّف.
بالتأكيد تعلّم الحريري كثيراً من تجربة الاستقالة بعد انتفاضة 17 تشرين. يومئذٍ اتّخذ قرار الاستقالة منفرداً من دون التنسيق مع حلفائه. اليوم يحيط الحريري نفسه بأصدقائه وحلفائه، وبأجنحة طائفته كلّها، من العائلات البيروتية، فالمجلس الإسلامي الشرعيّ الأعلى، وعلى رأسه المفتي الشيخ عبد اللطيف دريان، إلى نادي رؤساء الحكومات الداعم له والذي يتقدّم على الحريري في التمسّك بمطالبه على اعتبارها قدس أقداس صلاحيّات موقع رئاسة الحكومة، إلى جانب جرعات دعم وصلته من النوّاب السنّة جهاد الصمد وعدنان طرابلسي ووجيه البعريني المحسوبين على معسكر خصومه.
أمّا في الطائفة الشيعيّة فيتسلّح الحريري بدعم علنيّ من رئيس مجلس النواب نبيه برّي، ودعم ضمنيّ من حزب الله.
لمّ الحريري شمل طائفته، واستحوذ على دعم الشيعة، فيما المراجع الدينيّة المسيحيّة تنتقد مواقف رئاسة الجمهورية، وتحمِّل فريق الرئيس مسؤوليّة التأخير في تشكيل الحكومة.
سيظهر مشهد الالتفاف حول الحريري هذا في الأيام المقبلة كما سبق أن ظهر في اليومين الماضييْن في دار الفتوى وفي استقبالات بيت الوسط.
لا حلفاء لعون وباسيل من الطوائف الأخرى في المشهد الحكوميّ. برّي يساند الحريري، وكذلك يفعل حليف التيّار الوطنيّ الحرّ حزب الله. أمّا رئيس الحزب الديموقراطي طلال أرسلان فهو يكتفي بتفاهمات درزيّة لم تمانع توسيع الحكومة إلى 24 وزيراً
في المقابل، لا يبدو المشهد مشابهاً لدى فريق رئيس الجمهورية. فالموقع المارونيّ الدينيّ الأوّل، المتمثّل بالبطريركيّة، يتمايز عن رئاسة الجمهوريّة في الاشتباك الحكوميّ أو يقف على مسافة واحدة من الجميع بالحدّ الأدنى. وهذا ما ظهر جليّاً في عظة الراعي يوم الأحد. لا حلفاء مسيحيّين للرئيس عون أو لتكتّل لبنان القويّ. فالقوّات اللبنانيّة في موقع نقيض، والكتائب في ساحة أخرى، في حين ترك عددٌ من الشخصيّات المسيحيّة، النافذة في مناطقها، التكتّل منذ زمن.
لا حلفاء لعون وباسيل من الطوائف الأخرى في المشهد الحكوميّ. برّي يساند الحريري، وكذلك يفعل حليف التيّار الوطنيّ الحرّ حزب الله. أمّا رئيس الحزب الديموقراطي طلال أرسلان فهو يكتفي بتفاهمات درزيّة لم تمانع توسيع الحكومة إلى 24 وزيراً.
يُفترض بباسيل أن يكون منتصراً، باعتباره أصبح أقرب إلى تكريس المعادلة التي طرحها على الحريري حين استقال بعد انتفاضة تشرين: “معاً في الحكومة أو معاً خارجها”…. لكنّه يبدو معزولاً أكثر من أيّ وقت مضى.
يخسر الحريري في المدى القصير باعتذاره، لكن يذهب إلى المعارضة متسلّحاً بخطاب متماسك ودعم كبير، في وقت أحرق باسيل الكثير من أوراقه في المشهد السياسيّ المقبل بعد الانتخابات. فهل يحافظ باسيل على تأثيره بعد انتهاء عهد الرئيس عون؟ يشكّ المراقبون في ذلك.
أمّا الخاسر الأكبر فهو الشعب اللبناني الذي فَقَد أدنى مقوّمات الحياة وبات يعيش في ذلٍّ يبدأ مع حليب الأطفال والبنزين ولا ينتهي بالدواء والاستشفاء: لا ذلّ يعلو فوق معاناة اللبنانيين.
إقرأ أيضاً: بين “تجديد” التكليف وتعطيل التأليف: الأمر للفوضى
أمّا الفرنسيّون فهم ما عادوا يعوّلون على مبادرة برّي. فقد أوقف مستشار الرئيس الفرنسيّ في الملفّ اللبنانيّ باتريك دوريل رحلته إلى لبنان بسبب انسداد الأفق بعدما كان يستعدّ لزيارته هذا الأسبوع لدعم المساعي الحكوميّة والشعب اللبنانيّ.
وبدل دعم المبادرات السياسيّة، ستتوجّه الدول المانحة إلى دعم الجيش اللبنانيّ على أن يكون حاضراً عندما تدعو الحاجة، التي قد يكون موعدها قريباً.
إذاً الحريري يربح بالاعتذار، وباسيل يخسر، ولبنان سيدفع ثمن ربح هذا وخسارة ذاك.