فرض فيلم “الهديّة” الفلسطينيّ نفسه على سباق الأوسكار في فئة الفيلم القصير، وانتزع جائزة “البافتا” المرموقة، هو الذي تبلغ مدّته 24 دقيقة فقط، ويعرض حاليّاً على منصّة “نتفلكس” الشهيرة.
يلعب بطل الفيلم الممثّل الفلسطيني المحترف صالح بكري دور الزوج يوسف، الّذي يريد الذهاب إلى مدينة بيتونيا لشراء هدية لزوجته ليس إلا. فيصطدم بحواجز الذلّ الإسرائيليّة الّتي تحوّل رحلته إلى إقامة مريرة في عالم العذاب والقهر.
رمزية “الهديّة” في هذا الفيلم تكثّف معنى العادي وتمنحه صلابة استثنائيّة. الفلسطينيّ المستعدّ لتحمّل ويلات ومصاعب العبور من أجل شراء هديّة، هي عبارة عن برّاد كبير. يدافع عن معنى الفرح والبهجة، ويرفض السّكن في زمن الاحتلال. عبور الحاجز بكلّ ما ينطوي عليه من مشقّات هائلة، إنّما يظهر الحرص على الإمساك بالزمن، ومقاومة ذلك الزمن من التّعذيب الممتدّ اّلذي يصنعه الإسرائيلي.
لا يحاول الفيلم إظهار وجود قدرعالٍ من الإنسانيّة في وسط الجنود الإسرائيليّين، بل الهدف هو النقيض التّام لهذا التصوّر
صورة الإسرائيلي، كما تظهر في الفيلم، أثارت نقاشات كثيرة، لأنّها أظهرت نقاشاً بين جنديّين إسرائيليّين يتّخذ أحدهما دور الجندي الطيّب، في حين يرتدي الآخر ثوب الجندي الشرّير.
لا يحاول الفيلم إظهار وجود قدرعالٍ من الإنسانيّة في وسط الجنود الإسرائيليّين، بل الهدف هو النقيض التّام لهذا التصوّر.
وينفجر النّقاش حول عنف الإجراءات وقسوتها، خصوصاً أنّ الوالد يسافر برفقة ابنته الصغيرة ياسمين، الّتي تؤدّي دورها الطفلة مريم كنج. يقول إنّ ما يقوم به الإسرائيليّ لا تقف حدّته وقسوته عند حدود. لذلك لا يستحضر موقفاً ثابتاً وروتينيّاً ومتكرّراً وواثقاً، بل يفرض جدلاً لأنّ الإسرائيلي لا يؤدّي وظيفة مباشرة أمنيّة ووقائيّة وإداريّة، بل لأنّ وظيفته تكمن في إدارة منهجيّة لحالة من التّعذيب المفتوح.
تمسك المخرجة الفلسطينية فرح النابلسي بمفاتيح فيلمها عبر تناغم بين طبيعة التّصوير والخيارات الفنيّة الّتي اعتمدتها، وبين النصّ الّذي شاركتها في كتابته هند شوفاني. تصوّر مشاهد الازدحام الكبير أمام حواجز العبور من الوراء ومن فوق، وكأنّ الكاميرا تصطادهم، وكأنّها تتقمّص نظرة الإسرائيليّ، قبل أن تعود لتمنح الكاميرا فلسطينيّتها مصوّرةً العزلة في أقفاص الاحتجاز المنتشرة بمحاذاة المعابر.
بواسطة هذا الأسلوب الّذي يمثّل منطق بناء الفيلم، تقدّم النّابلسي رؤيتها للتّناقضات الحادّة بين عالمين، هما عالم الفلسطيني كما ينظر إليه الاحتلال، وعالمه كما يحياه وكما يحرص على صناعته والدفاع عنه.
الفلسطينيّ في عين الاحتلال ليس سوى مجموعة من الحشود الّتي لا تمثّل أكثر من تجمّع بشريّ بلا وزن ولا قيمة. المخرجة بتركيزها على العالم الفرديّ ليوسف وأسرته المؤلّفة من زوجته نور، الّتي تقوم بدورها الممثّلة مريم كامل باشا، وابنته ياسمين، وكيف يحيا ألمه، وكيف يخترع أفراحه الصّغيرة ويدافع عنها بشراسة، إنّما تعيد للفلسطينيّ كيانه، وتمنحه القدرة على الخروج من أسر العين الإسرائيليّة التي لا تسمح له بامتلاك خصوصيّة خارج التّصنيف الجماعي التّبخيسي.
المواجهات بين صالح والجنود الإسرائيليّين تظهره بوصفه فرداً، ولكنّه ليس معزولاً وبلا صفات وملامح، لأنّه الأب والزوج الذي يحضر في كل لحظة موصولاً بقضيّتة البسيطة والموجزة والمكثّفة. إنّه يقاتل من أجل هديّة زوجته، ويكرّر في كل لحظة أنّ هدفه من الرحلة هو التسوّق. ما يخلق تناغماً دلاليّاً بين مفردات “التّسوّق”، بما تعنيه من بحث عن عاديّة الحياة وسياقاتها الطّبيعيّة، وبين فكرة شراء الزّمن.
إنّ إصرار الجنود على التّنقيب في كل الحاجيّات الموجودة في البرّاد، والّتي من ضمنها لباس ياسمين الّذي بالت فيه بعدما عجزت عن السّيطرة على نفسها بعد إجبارها على الانتظار لفترة طويلة أمام الحاجز، يجعل هذا اللّباس المغطّى بالبول يشكّل رمزاً للبضاعة الإسرائيليّة ومنتجاتها أو للزّمن الإسرائيلي.
المسافة بين الحاجز وبيت صالح لا تتعدّى عشرات الأمتار، لكنّ الاحتلال يجعل من تلك الأمتار القليلة زمناً كاملاً. تحويل الجغرافيا إلى زمن هو الصّيغة الّتي يعتمدها الاحتلال لاقتلاع الرّوح الفلسطينية وإغراقها في دوّامة اليأس.
إقرأ أيضاً: الأوسكار “صيني” هذا العام.. وظلمَ كثيرين
يرفض صالح الخضوع لهذا الإرهاب، لكن لا يستطيع أن يفعل شيئاً. وما لا يجرؤ الوالد على القيام به تقوم به الطفلة. تجرّ الهديّة وتخرج بها من المعبر الواسع المخصّص للإسرائيليّين وسط حالة ذهول جماعيّ، وكأنّها استطاعت أن تجعل الجميع يعاينون معجزة حيّة، تجاوزت فيها ياسمين حدودَ خوف والدها وما يرمز إليه من استعصاءات قائمة، وأيضاً ثقةَ الإسرائيليين المطلقة بمدى سطوتهم.
ياسمين لم تعبر الحاجز وحسب، بل انتقلت إلى زمن فلسطيني جديد لا يبني آماله ووعوده على واقع اللحظة المتردّي، بل يخترقها، ويقيم في فكرة العبور، جاعلاً إيّاها عنواناً لِما سيأتي.