منذ أيام انتشر فيديو يظهر الازدحام والنراجيل في أحد المقاهي الشعبية في منطقة باب الرمل بعاصمة الشمال طرابلس. الفيديو واجه حينها انتقاداً واسعاً، وسأل متداولوه: أين هي الإجراءات الوقائية من فيروس كورونا؟
غير أنّ المشهد في طرابلس لا يقتصر على باب الرمل، ومقاهيها، بل يمتدّ أيضاً إلى منطقة الضمّ والفرز. فهذه المدينة تعايشت والفيروس منذ زمن، ولم يعد للقرارات وإجراءات التعبئة من مكان. حتّى القوى الأمنية نفسها رفعت الراية البيضاء: فلا حواجز ولا تدقيق ولا من يحزنون.
طرابلس اليوم تدبّ فيها الحياة الرمضانية، بفعل الدولار واليورو اللذين يأتيان من الخارج، مع سعر صرف يخدم من تصل إليه هذه الأوراق الصعبة
هذا التمرّد على الوقاية من الفيروس بلغ الذروة في شهر رمضان الجاري. لكنّ الغريب اقتصار الانتقاد على المقاهي الشعبية التي ترتادها الفئات ذات المدخول المحدود. ففي هذه المقاهي تكفي المرتاد ورقة مالية من فئة 20 ألف ليرة ثمناً للقهوة والنرجيلة، وهذا ما يصبح مستحيلاً إن تقدّمنا قليلاً نحو مقاهي الضمّ والفرز.
المشهد في الضمّ والفرز، كما قلنا سابقاً، لا يختلف عن باب الرمل وسائر المناطق الشعبية.
ففي الضمّ والفرز، حيث تقدّم معظم المقاهي إفطارات رمضانية، عليك بالحجز المسبق أو لن تجد مكاناً. الأسعار فيها إلى ارتفاع، فالنرجيلة في بعضها تكلّف 25 إلى 30 ألف ليرة. أمّا القهوة والنسكافي فيبدأ ثمنهما من 15000، ويأخذ مساره بالتصاعد.
أمّا عن الأطعمة فحدّث ولا حرج. فصحن الشوربة وحده يتجاوز 15000. والمأكولات تبدأ الوجبة الواحدة المتواضعة منها بـ40000. فتكون تكلفة إفطار الشخص الواحد في أحد مقاهي الضمّ والفرز على الأقل 100 ألف ليرة.
هذا الازدحام يطرح سؤالاً عن الفقر المنتشر في طرابلس. وهذا ما يعطي صورة عن المدينة التي قسّمها المغتربون عامودياً. فالذي لديه أقارب في الخارج يرسلون إليه “الفريش دولارز”، ما زال قادراً على الاستمرار، بل إنّ وضعه المعيشي أصبح أفضل ممّا سبق بدرجات. وفي طرابلس عدد من المغتربين لا يستهان به.
على هامش هذا الرخاء الجزئي، تتشكّل صورة مؤلمة لأناس يتسابقون على كرتونة إعاشة لا تسدّ رمقاً، أو على وجبة رمضانية توزّعها بعض الجمعيّات
أمّا من ليس لديه معين في الخارج، فبات حصوله على لقمة العيش صعباً، وقد لا تجد على مائدة إفطاره أكثر من وجبة واحدة متواضعة.
طرابلس اليوم تنقسم ببساطة إلى صورتين، صورة للفقراء الذين يفترشون الطرقات عند “جسر الخناق” و”المعرض”، وصورة لطبقة من الناس لا تزال تتنفّس وتزدحم بهم المقاهي.
في جولة على المقاهي يلاحظ العابر أنّ الازدحام ليس حكراً على وقت الإفطار. فالمقاهي تستقبل وتودّع روّادها حتّى ساعات الفجر الأولى، وتحديداً ساعة الإمساك.
أمّا الأسواق فتشهد ازدحاماً في ساعات الصباح، والحركة فيها توصف بـ”الجيّدة” قياساً إلى العام السابق، على ما يقول الباعة. وستفتح أبوابها مساءً ابتداءً من يوم الاثنين المقبل.
إحدى العائلات المتواضعة، التي رفضت الكشف عن هويّة أفرادها، تقول لـ”أساس”: “ما زلنا قادرين على الاستمرار، فلدينا أقارب في أستراليا يرسلون إلينا مبلغاً من المال شهريّاً”.
ربّ عائلة أخرى، يتحدّث عن أشقائه، الذين يرسلون مالاً بالـ”يورو” من ألمانيا، فيعينون عائلات أقربائهم في لبنان.
ويخبرنا صاحب سوبرماركت في القبّة عن ابنه، الذي يرسل إليه من أستراليا 1000 دولار شهرياً، ويعين بالمبلغ أشقّاءه المتزوّجين غير القادرين على دفع بدلات إيجار بيوتهم، أو حتّى ثمن الحليب والدواء لأولادهم.
إقرأ أيضاً: مفتي طرابلس لـ”أساس”: الأغنياء يساعدون.. لكن لا بديل عن الدولة
طرابلس اليوم تدبّ فيها الحياة الرمضانية، بفعل الدولار واليورو اللذين يأتيان من الخارج، مع سعر صرف يخدم من تصل إليه هذه الأوراق الصعبة.
لكن على هامش هذا الرخاء الجزئي، تتشكّل صورة مؤلمة لأناس يتسابقون على كرتونة إعاشة لا تسدّ رمقاً، أو على وجبة رمضانية توزّعها بعض الجمعيّات.. وجبة فيها بعض اللحم الذي غاب عن العديد من الموائد بفعل الظروف السيّئة.
إنّها مدينة بين صورتين: جوع الفقراء ومقاهي المرتاحين.