بين الأحلام والأوهام، وعلى هامش الخرافات واليقين، رسم أجدادنا الأكابر خطوط سيرنا المفترضة نحو النجوم. بدءاً من عملقة لبنان وصولاً إلى لبننة العالم. وقد استندوا يومذاك إلى دينامية شعب خلاّق ما برح ينفجر حتّى استحال مسرحه الكون، وإلى بلاد تجاوزت البندقية وجنوى في أوج عزّهما، فكانت قبل أن تكون روما بألفيْ عام.
يا لَعارنا بين الأمم. هكذا، بهذه العبارات المصحوبة بالغصّة والقهر واللطم المستدام على النواصي، نُقدّم للعالم بأسره صورتنا البشعة، وصورة بلادنا التي حوّلناها إلى جيفة نتنة، بعدما كانت فكرة فاتنة ورسالة بديعة وأيقونة غائرة لأكثر من ستة آلاف سنة في كبد التاريخ وفي صميم الحضارة وفي خلاصة وتكوين كل مجد ترعرع على ضفاف المتوسط.
يا لَذلّنا هذه الأيام، ويا لَتعاستنا ونحن نتصدّر وسائل الإعلام العالمي، فيما نتذابح على كيس حليب وقارورة زيت وعلبة سُكّر، ونغرق في العتمة والفشل والوحل وفي اليوميّات والتفاهات والصغائر، بعدما كنّا روّاد المنطقة ومحورها وبوصلتها ومصرفها ومستشفاها وجامعتها ونافذتها وشرفتها وعروستها المدلّلة.
يا لَعارنا بين الأمم. هكذا، بهذه العبارات المصحوبة بالغصّة والقهر واللطم المستدام على النواصي، نُقدّم للعالم بأسره صورتنا البشعة، وصورة بلادنا التي حوّلناها إلى جيفة نتنة
يا لَذلّنا، ويا لَتعاستنا ونحن ندمّر ما تبقّى من أساسات الدولة ودستورها ومؤسّساتها وقيمها ورمزيّتها، و”نشرشح” آخر وجه من وجوهها وحضورها، بعدما كنّا في طليعة دول الديموقراطية والقانون والمؤسّسات والعدالة وحقوق الإنسان، وبعدما كانت عاصمتنا سيّدة الدنيا وأمّ الشرائع.
لقد أصبحنا في خضمّ حفلة جنون يندى لها الجبين. ماذا يعني مثلاً أن تنجرف قاضيةٌ بازدواجية فاضحة، وعصبيّة حزبية وسياسية مكثّفة، نحو تمريغ آخر مظاهر الدولة تحت غطاء مباشر من رأس الجمهوريّة المؤتمن على دستورها وقوانينها؟
يجب عدم الانتظار حتّى نهاية عهد ميشال عون، ولا بدّ من العمل على إسقاطه بأولويّة مُطلقة وبأسرع وقت ممكن وعبر كل الطرق المتاحة
لقد قام القضاء أساساً بهدف استبدال العقل بالغريزة، والقانون بشرائع الغاب، والعدالة بالثأر. ووُجد القضاة ليحكموا بكلمتهم، بحكمتهم، ببصيرتهم وتبصّرهم، بالبرهان والدليل، والضمير والهيبة والميزان. هذه واحدة من أسمى القيم التي أنتجتها البشرية منذ فجر التاريخ، وهي تماماً التي تمنح القاضي قوّته المطلقة وشرعيّته المستدامة. بها وعبرها تُفتح كلّ الأبواب الموصودة، لا بالرفس ولا بالكسر، ولا بالخلع، ولا باستحضار الشعبويّات الرخيصة والجماهير البذيئة والمواقف الدونكيشوتية.
إقرأ أيضاً: لعيون غادة: عون يقرّع الجميع… وفهمي يردّ
لم يعد من شكٍّ على الإطلاق في كون ميشال عون، ومن يقف إلى يمينه وإلى يساره، باتوا يريدون لهذه البلاد أن تلامس الحضيض بعدما فقدوا أيّ أمل في تعويم أنفسهم. وهو حضيض لا يقتصر على انهيار الأوضاع المالية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية وحسب، بل ينسحب أيضاً على كل المرتكزات التي تقوم على أساسها الدول، وفي طليعتها ضرب القيم وتجاوز القوانين وتعزيز ثقافة الردح على حساب الحقيقة والمنطق.
العونيّة لوثة مرضيّة شديدة الخطورة، وهي لا تزال قادرة، على الرغم من انكشافها وضعفها وهوانها، على إلحاق أذيّة هائلة، ليس بالتركيبة السياسية البائدة وغير المأسوف على سقوطها، بل بالأساسات العميقة للكيان والدولة والمؤسّسات، ولذلك يجب عدم الانتظار حتّى نهاية عهد ميشال عون، ولا بدّ من العمل على إسقاطه بأولويّة مُطلقة وبأسرع وقت ممكن وعبر كل الطرق المتاحة.