لنا جارٌ في الحي عجوزٌ ومخضرمٌ، يتزعّم المنطقة بحنكته وبقدراته الذهنية والمادية. يفرض نفسه “فتوّة” على الجيران، فيقوم بالوساطات بين المتخاصمين، ويرعى الصلح بين المتقاتلين، ويساعد المحتاجين تارة، وتارة أخرى تراه يتدخّل إلى جانب هذا ضد ذاك أو العكس… وكلّ ذلك بحسب أهوائه وصداقاته، وخصوصاً مصالحه.
هذا الجار “الفتوّة” يدعى أبا سامي، ويلقّبونه حركيّاً بـ”العم سام”. سبق له أن ساعدنا أكثر من مرّة في شؤون البناية التي أسكنها. فدرّب الناطور على أساليب دفاعية جمّة من أجل حماية البناية من السارقين والمعتدين. ووقف جنبنا في بعض المِحن، لكنّه في بعض المحطّات كان ينحاز إلى جيراننا في البناية المقابلة.
وجيراننا هؤلاء، هم في الأصل محتلّون ومعتدون من آل طرزان، احتلّوا بناية جيراننا الأصليّين قبل عقود، لكنّهم لم يهملوها مثلما يفعل المحتلّ عادةً، بل حافظوا عليها أكثر من سكانّها الأصليين، الذين مزّقتهم الخلافات حتى خسروا مُلكهم. فطوّروها وصرفوا عليها الأموال وسيّجوها ونصبوا كاميرات مراقبة في الزوايا، وزرعوا فناءها الخلفي بالأشجار المثمرة والورود، وأحاطوها بالمصابيح المنيرة بعدما اشتروا مولّداً كهربائياً ضخماً، ونسجوا الصداقات مع بعض جيران الحيّ.
يقال إنّ هذا الصهر يؤثّر كثيراً على حماه ولا أحد يعرف الأسباب. لكن يقال أيضاً أنّ ثمّة من “ينفخ في رأسيهما” ويحضّهما على هذا السلوك
بحجة هذه الأعمال والإصلاحات التي أجروها على مبناهم المحتلّ، حاولوا الاعتداء على حدود بنايتنا أكثر من مرّة، فاحتلّوا الباحة الخلفيّة لسنوات طويلة ثمّ خرجوا منها بعد “خناقة” كبيرة دامت عقوداً. وها هم اليوم يعودون إلى عاداتهم، ويحاولون قضمَ جزء من موقف السيارات.
وعلى خلفيّة ذلك، نشب خلاف جديد في الحيّ، فتدخّل أبو سامي من أجل إيجاد الحلول بيننا وبين آل طرزان. ارتأى أبو سامي أن نعيد ترسيم الحدود بيننا، وأن ننظّم أحقّيّة ركن السيارات في هذا الموقف الذي بقي مهملاً لسنوات طويلة، لكنّ الحاجة إليه اليوم طفت على السطح بعد ارتفاع عدد السيارات في الأبنية المجاورة.
دعانا أبو سامي إلى جلسات مفاوضات أكثر من مرّة، من أجل ترسيم حدود “الباركينغ”، ولكي يعرف كلّ منّا، مرةً واحدةً وأخيرةً، أين يركن سيارته في البلوك المخصّص له.
لم يكن جارنا أبو مصطفى رئيس لجنة البناية، لكنّه تولّى عملية التفاوض بتزكية من بعض الجيران، بحكم أنّ أبا مصطفى محامٍ بارع، وهو قادر على التفاوض باسم السكان، وخصوصاً أنّ أمين السرّ في لجنة البناية كان حديثاً ويافعاً على هذا الكار، ويقضي أغلب أوقاته في الخارج بين الإمارات وفرنسا.
وفي كل مرّة كانت عملية التفاوض تتمّ بمساندة ومساعدة أبي سامي، الذي يقيم علاقة وطيدة مع آل طرزان. وبالفعل وصلنا أخيراً إلى اتفاق مبدئيّ سمّاه أبو سامي وأبو مصطفى “اتفاق إطار”، وقد جرى الاتفاق بينهما على التوقيع مع آل طرزان على هذا الاتفاق في الباحة المتنازع عليها، أي عند حدود “الباركينغ”.
في كل مرّة كانت عملية التفاوض تتمّ بمساندة ومساعدة أبي سامي، الذي يقيم علاقة وطيدة مع آل طرزان. وبالفعل وصلنا أخيراً إلى اتفاق مبدئيّ سمّاه أبو سامي وأبو مصطفى “اتفاق إطار”
“وصلت اللقمة للتم”، مثلما يقول المثل الشعبي، لكن فجأة تدخّل رئيس لجنة البناية الذي يسكن في الطابق الأول واضعاً شروطاً جديدة، وطالب بتوسيع الاتفاق من أجل زيادة موقفين إضافيين لصالح بنايتنا. ورئيس اللجنة، هو الآخر ضابط، لكنّه متقاعد وصعب المراس، له صهر متعجرف لا يُطاق، يسكن معه في البيت ويظنّ نفسه واحداً من السكان. يتدخّل في كل صغيرة وكبيرة، فتخال أنّه هو رئيس اللجنة وليس عمّه الذي يحرص عليه ويسعى إلى أن يهبه الشقة، ويظنّ المسكين أن رئاسة اللجنة ستؤول إلى صهره مع البيعة!
يقال إنّ هذا الصهر يؤثّر كثيراً على حماه ولا أحد يعرف الأسباب. لكن يقال أيضاً أنّ ثمّة من “ينفخ في رأسيهما” ويحضّهما على هذا السلوك. وأغلب الظنّ أنّ جارنا أبا هادي، الذي يسكن في الطابق السفلي، هو الذي يفعل ذلك. فأبو هادي لا يخرج من بيته أبداً، ولا يكلّم أحداً من الجيران، ولا يلتقي بأحدٍ منهم، لكنّه يعرف كل شاردة وواردة. وهو يفرض هيبته على المبنى وعلى بعض السكان في الحيّ، مستقوياً بأبنائه الكثر وبعضلاتهم المفتولة.
هم مجموعة من الشبان المسلّحين بالبنادق والرشّاشات، وقفوا في صفّنا وفي صفّ البناية في بعض المواقف، لكن بعد ذلك أصابهم الغرور، وصاروا يمشون في الأرض مرحاً، وكأنّهم قادرون على أن يخرقوا الأرض، ويبلغون الجبال طولاً. لا شكّ أنّ لأبناء أبي هادي أهدافاً ونوايا مبيّتة ليست في صالح البناية.
لم يكن رئيس اللجنة وحيداً في هذا الموقف، فقد سانده بعض السكّان، ومنهم الطبيب الذي يسكن في الروف. بدا موقف الطبيب غريباً وغير منسجم مع طروحاته السابقة، إذ كان دوماً يشتكي من تقصير اللجنة وقلّة حيلتها وهدرها لموارد البناية، لكنّه فجأة انقلب رأساً على عقب، ولم تُعرف أسباب ذلك الانقلاب.
أمّا زوزو، جارنا الضابط الذي يسكن في الطابق الرابع، فيُقال إنّ وقوفه إلى جانب رئيس اللجنة سببه طموحه المستجدّ إلى أن يكون رئيساً للّجنة يوماً ما. زوزو شخص محترم وصاحب منطق، وليس من عاداته أن يتّخذ مواقف كهذه، خصوصاً أنّه ذو علاقة طيبة بأبي سامي الذي كان مشغولاً في الأشهر الماضية بعرس ابنته (الديموقراطي) فغاب عن الحيّ ومشاكله لفترة من الزمن.
إقرأ أيضاً: إذا إنتِ ميشال عون… أني أبو زهير
يُقال اليوم إنّ أبا سامي، بعدما عاد إلى الحيّ وعلم بما حصل، غاضبٌ جدّاً و”عينو حمرا” من صهر رئيس اللجنة، الذي بات يُهدّد مستقبل البناية كلّها، وليس الباركينغ فحسب. ويُقال أيضاً إنّ رئيس اللجنة تخلّى عن مطالبه بعدما رأى الغضب في عيون أبي سامي فخاف منه وانكفأ متراجعاً، ولا سيّما بعدما نفض المحرّض أبو هادي يده من كل هذه الخبريّة.
انسحب الجميع، ويبدو أنّ زوزو بقي وحيداً في ساحة الوغى. أمّا البناية فباتت كلّها مهدّدة بمزيد من الخراب… ويا بخت الشاطر الذي يبيع شقّته ويهرب، حتّى لو سكن في مكان آخر بالإيجار.
*هذا المقال من نسج خيال الكاتب