مرّ أسبوعان على وجود صديقي أبي منيراء في لبنان قادماً من نيجيريا، ولم تسمح لي الظروف بملاقاته قبل صباح أمس. اتصل بي وطلب أن ألاقيه في مقهى بيروتيّ عريق قرب “سينما بيروت” عند تخوم الطريق الجديدة.
المكان الذي جلسنا فيه أمس، لم يكن مقهىً عادياً بقدر ما كان “آلة زمن” نقلتنا إلى حقبة السبعينيّات (رزق الله). عادت بنا هذه الآلة إلى “الزمن الجميل”، إلى نوستالجيا فرضتها كراسي الخيزران والطاولات الخشبية وأكواب الشاي وفناجين القهوة “الشفة” العربية، مع قرقعة نراجيل التنباك “النكهة” و”العجمي”، فيما روّاد المقهى يلعبون “ورق الشدّة”، ومعهم لوح خشبي أسود صغير مع طبشورة بيضاء يسجّلون بها النتائج المحقّقة. ورافقنا في تلك الجلسة همسٌ لأغنية “أم كلثومية” من أجمل إبداعات بيرم التونسي وروائع رياض السنباطي: “القلب يعشق كلّ جميل”.
سألتُ أحمد، الساقي في ذاك المقهى، عن سبب غياب نراجيل المعسّل، فقال لي: “هون كلهم ختايرة، بطبوا على الريحة… بعدين المعسّل للهواة، ونحن ما في بيناتنا هواة”.
سياسات رئيس زيمبابوي روبرت موغابي كانت خلف هذه الأزمة. تشبه مسيرة موغابي العسكرية والسياسية مسيرة رئيسنا ميشال عون. فالاثنان قادا جيوشاً بهدف التحرير، والاثنان خاضا حروباً سياسية ونسجا تحالفات من أجل الوصول إلى الرئاسة
جلست مع أبي منيراء نتجاذب أطراف الحديث وسفاسفه، نراقب الجالسين، لاعبي “الكاتورز” الأقحاح. عدنا في الذاكرة إلى الماضي من وحي المكان، فاستذكرنا شؤوناً كثيرة، وتحدّثنا في مشاريع وأجرينا دراسات جدوى.
من جملة ما أخبرني إياه أبو منيراء، قصة صديقه مايك الزيمبابويّ (من زيمبابوي) الذي كان يخدم في جيش بلاده، واتّفق أن تقاعد في خضمّ الأزمة الاقتصادية هناك. يومئذ، قصد مايك مركز القيادة ليحصل على تعويضه، لكنّه لم يستطع العودة إلى بيته، لأنّ مبلغ التعويض الذي حصل عليه، لم يكن كافياً لتعبئة خزان سيارته بالوقود (ترو ستوري).
نعم، إلى هذا الحدّ كان انهيار العملة في زيمبابوي سريعاً وساحقاً لقدرة الناس الشرائية.
سياسات رئيس زيمبابوي روبرت موغابي كانت خلف هذه الأزمة. تشبه مسيرة موغابي العسكرية والسياسية مسيرة رئيسنا ميشال عون. فالاثنان قادا جيوشاً بهدف التحرير، والاثنان خاضا حروباً سياسية ونسجا تحالفات من أجل الوصول إلى الرئاسة، وكذلك الاثنان كانا يقولان دوماً: “نسعى خلف الحقوق”.
الأوّل كان يسعى إلى استعادة حقوق “الزيمبابويّين” من البيض المغتصِبين، فعدّل الدستور وصادر الأراضي الزراعية، فسبّبت سياسته هذه أزمةً حادّةً أدّت إلى خراب البلاد.
أمّا الثاني (رئيسنا)، فلا ينفكّ يحدّثنا، منذ سنوات، عن حقوق المسيحيّين، تلك الحقوق التي ستؤدّي بفضله إلى تفكّك الجمهورية، وربّما إلى الخراب أيضاً. لعلّ الفارق الوحيد بيننا وبين دولة زيمبابوي تسعة أصفار، فهم دفعتهم الأزمة لطباعة ورقة نقدية من فئة 100 تريليون دولار، أمّا نحن فصامدون على ورقة الـ100 ألف ليرة، ولله الحمد.
لم يُكمل موغابي عامه الـ37 في الحكم بعدما أجبره جيش بلاده في أواخر عام 2017 على الاستقالة، إثر وصول المتظاهرين إلى بُعد 200 متر من القصر الرئاسي.
كان موغابي يخرج على شعبه بخطابات طنّانة رنّانة، ليدفع عنه تُهم الانهيار ويرمي بها على الآخرين، تماماً مثل الخطاب الذي أطربنا به “جبل بعبدا” قبل أيّام، وختمه بجملة تذكيرية تقول: “أنا ميشال عون رئيس الجمهورية والجنرال الذي تعرفونه”.
كنت يومئذ أمام التلفاز أشاهد نشرة الأخبار، فأطلّ مقاطعاً النشرة ليذكّرنا بأنّه الجنرال، فضحكت وقلتُ له من خلف الشاشة: “إيه وأني أبو زهير… شيل على القبان”.
إقرأ أيضاً: سأسلّم “بستان جدّي” بحالة أفضل ممّا تسلّمته
أخبرت أبا منيراء بتلك “السالفة”، فضحك وضحكت وضحكنا حتّى انقطع النفس العجميّ، ثمّ قاطعتنا قحّة رجل عجوز سبعينيّ يجلس بجانبنا، فعكّر صفو جلستنا حين تفّ على الأرض بين قدميه مقذوفة “هاون” من عيار 240، مِثل تلك التي كان الجيش السوريّ يقصفها خلال حرب التحرير على الجنرال عون من أعالي فالوغا إلى المناطق الشرقية، فعرفت أنا وأبو منيراء لماذا ينثرون نشارة الخشب الناعمة في أرجاء المقهى.
خرجنا من “آلة الزمن” تلك، وعاد كل منّا أدراجه لينتظر الانهيار الكبير في “جهنّم”.
*هذا المقال من نسج خيال الكاتب