لقمان. الأفضل الآن تأجيل الكتابة. اذا كان البوح يوحي بأّننا أحرار، إذاً فالبوح كاذب، وإذا قلنا إنّنا لا نستطيع البوح فنحن نكذب أيضاً.
هذه غابة غير خضراء. غابة اقتُلِعَت معظم أشجارها، والأرض فيها موحلة. أطيح بقانون الغابة نفسه، والوحل جفّ وصار التفلت منه أصعب.
هذا قفر بلا معالم واضحة. قفر سديمي غير متعاون العناصر، يأتمر بالآية الثانية من سفر التكوين: “وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة”. الظلمة ثقيلة كبلاطة. أفشل في إكمال باقي الآية. عينا لقمان تلاحقانني منذ إذاعة نبأ مقتله. أحاول قمع صوته. أحاول الخروج. لا باب للقفر ولا سور.
كنت وعدتك يا لقمان بهذا النصّ، وأنت لن تقرأه الآن. ليس لي مع ذلك غير الشروع في كتابته. سأَوجز قدر الإمكان لأنّ الأمر يرهقني. سأتوقف عند أي فاصلة تتيح لي، مؤقتاً، الخروج منه. هذا نص بلا خاتمة.
ذاكرة الضاحية
الضاحية، الصفير، مطلع الثمانينيات. الحال كانت غير. لم يكن حزب الله قد ظهر بعد. كان منزل جدي وجدتي، أتردد عليهما باستمرار. ما بين الأونيسكو والصفير والمدرسة في فردان نشأت. ابناً لعائلة مسيحية، شيوعية، عمالية، مسلّحة. حمل فيها الأخوة جميعهم السلاح في حرب السنتين، ضد التيار الجارف في طائفتهم، واستشهد بينهم عمي عن 19 عاماً. باقي العائلة، عائلة جدتي، أم والدي، كانت تفصلها عنهم مئات من الأمتار قليلة، من الجهة الثانية، في الحدت. وجدتي لطيفة، ابنة العم اللزم لجورج سعادة، النائب الكتائبي آنذاك، ثم رئيس الكتائب. كان يكفي للطيفة وأختها سعاد الاقتراب قليلاً من خطً التماس بينهما لمكالمة بعضهما البعض، وكي ترمي الواحدة منهما كروز دخان “جيتان” للأخرى. سعاد لاحقا، منتصف التسعينيات، وجدت مقتولة، مقطعة الأوصال في الحدت.
كنت وعدتك يا لقمان بهذا النصّ، وأنت لن تقرأه الآن. ليس لي مع ذلك غير الشروع في كتابته. سأَوجز قدر الإمكان لأنّ الأمر يرهقني. سأتوقف عند أي فاصلة تتيح لي، مؤقتاً، الخروج منه. هذا نص بلا خاتمة
لماذا تخرج علي كل هذه الذكريات دفعة الآن؟ وما علاقتك أنتَ بها؟ مفهوم، أنتَ ابن الضاحية بشكل عضوي، وأنا الضاحية جزء من نسيج طفولتي. أنت ابن إحدى عائلات الضاحية الأساسية قبل أن يكون اسمها ضاحية، وأنا ابن نازحين، شتاءً، في أواخر الأربعينيات، إلى ساحل المتن الجنوبي من بلاد جبيل، تنقّلوا بين الحدت وحارة حريك والصفير. وفي المقابل، أنت ابن المحامي محسن سليم، الشمعوني الشيعي، وأنا ابن من حمل السلاح باكراً باكراً جداً، ضد الشمعونية. جدّي سركيس في ثورة 58. سركيس الذي بعدما انخرط في الحزب الشيوعي، لم يعجبه موقف الأخير ضد جمال عبد الناصر، فاختار عبد الناصر.. ثم فرض في قريتنا الجبيلية، بجة، أن يُقام قداسٌ جنائزيٌ لجمال عبد الناصر يوم وفاته. أفول الناصرية لاحقاً هو الذي أعاد سركيس وأولاده إلى الحزب الشيوعي، زائد الدور الذي لعبه مدرّس والدي، المحامي مخايل عون، ابن عم ميشال عون.
الدمار الذي أحدثه استشهاد عمي إيلي في عائلة جدي كان مرعباً وعجيباً. لا أفهمه أحيانا. كانوا كلهم على الجبهات. من حرب الفنادق حتى كفرشيما. ماذا كانوا يتوقعون؟ لكن إيلي ذهب إلى أبعد من ذلك جغرافياً. قُتِلَ على محور بدادون، وبما يظهر إنه كان نتيجة حماقة – إجرامية بالحصيلة – من القيادة العسكرية الحزبية المحلية التي أعطت الامر آنذاك للجنود للتقدم من دون مدفعية مواكبة.
قرعوا جرس الكنيسة في بدادون وقتلوا هناك. صافحتُ المتسبّب بمقتل عمي من الجهة الحزبية لاحقاً، كما صافحتُ كثيرين من الجهة المقابلة في الحرب. بين أن يكون عمي هو مقاتل استشهد في الحزب، وخالي أمين عام الحزب، كان هناك تناقض. استشهاد الأخير لاحقاً حول التناقض إلى مسار أكثر تعقيداً.
وهذا كان يبعدني عن مشغلتك يا لقمان الاحترافية في توثيق الحرب. الأمور عندك محسومة لصالح توثيق الذاكرة. الأمور عندي غير محسومة، لأنّني أشتهي بعثرة الذاكرة، وأتخيّل ما يمكن أن يكون عليه النسيان. الحرب موثّقة عندي بما يكفي وما يفيض، فلا يروي ظمأي إلا حروب أكثر قدماً في الزمن، والترحال إلى أبعد الأمكنة.
وكثيراً ما تهرّبت من التعاون معك في هذه الجزئية بالتحديد، الحرب والذاكرة، بخلاف موضوعات أخرى، كالمشاركة في كرّاس “هيا بنا” حول الإنسحاب السوري، أو في ندوة حول “اللجوء السوري في لبنان وأشكالاته”.
أكثر من مرة عبّرت لي يا لقمان عن انزعاجك مراراً من أنّني قابلتُ سمير جعجع. كان هذا تعبيراً عن اختلاف تكويني بيننا أيضاً، وليس فقط اختلافاً في التكتيك. كانت الأمور عندك مرتبة هكذا: التوثيق، الاعتراف، الغفران، النسيان. كنتَ تريد في نهاية المطاف النسيان أنت أيضاً، في خاتمة التحليل، أقصد في خاتمة التوثيق. أنا أردت التظاهر بالنسيان لتفادي الذاكرة الموجودة على الزنبرك. لا يمكن أن نعيد فتح جدلنا هذا الآن.
قرعوا جرس الكنيسة في بدادون وقتلوا هناك. صافحتُ المتسبّب بمقتل عمي من الجهة الحزبية لاحقاً، كما صافحتُ كثيرين من الجهة المقابلة في الحرب. بين أن يكون عمي هو مقاتل استشهد في الحزب، وخالي أمين عام الحزب، كان هناك تناقض. استشهاد الأخير لاحقاً حول التناقض إلى مسار أكثر تعقيداً
ما يجب قوله هنا إنّنا كنا نحب مناقشة هذه المسائل من دون الوصول إلى خلاصة، إلا وعدي لك بأن أكتب عن منظار رؤيتي للضاحية طفلاً، واستمرار تأجيلي هذا الأمر. ومن قال لك إنّني سأتوسع في الأمر كثيراً الحين؟ أنت لن تقرأ شيئا من كل هذا الآن…
لكنّني سأكتب شيئاً ما.
إيرانيون في بعلبك وحزب الله في الضاحية
المرّة الأولى التي سمعت فيها بحزب الله لم تكن في الضاحية، ولم يكن حزب الله هو المسمى الرسمي بعد. في آب 1982، صيف الاجتياح، حين أقمنا عند عائلة شيوعية في بعلبك ووافانا جدي إلى هناك لفترة آتياً من أسابيع قضاها في سوريا. أوّل مرة سمعت فيها عن “إيرانيين” أتوا إلى بعلبك كانت وقتها. ما كنتُ بلغتُ الخامسة من العمر بعد، كنت في الخامسة إلا ثلاثة أشهر، لكنّني أذكر جيداً وقع الاسم عليّ: الإيرانيون، ولا أعرف لماذا ربطته بالقلعة، كما لو أنّه رجعة إلى تاريخ قديم. لم نزُر القلعة يومها، وكانت تظهر دائماً في الذهاب والإياب. ظننتهم قوماً قد أمسوا بها.
بعد سنوات قليلة في الصفير. عبارة مقابلة لمنزل جدي: “يا مسلمي العالم اتحدوا اتحدوا”. ثم علمتً يومها أنّ سركيس اعترض أن تُكتب العبارة فوق منزله بالتحديد، وكتبت على الجدار المواجه. كانت تحاكي ما حفظته أيام مهرجان الذكرى الستين للحزب الشيوعي: “يا عمال العالم اتحدوا”، ومهرتُ به كل دفاتر المدرسة. لكنّها كانت تؤكد على الوحدة مرتين.” اتحدوا، اتحدوا”. لطالما سألت نفسي لماذا التكرار مرتين.
سركيس جدي، المنتمي أساساً إلى الفئة الكادحة، والقارئ المثابر، كان استقبل الثورة الإيرانية بقصيدة مديح كتبها للإمام الخميني ونشرتها له مجلة منظمة التحرير، “فلسطين الثورة”. لكنّه حين قدم الشبان لوضع شعارات خمينية على منزله بعد ذلك بسنوات رفض، ويبدو أنّه، مع جدتي، وجدا وسيلة للتعايش مع الوضع الحزب اللهي الجديد للضاحية. كموارنة قلائل استمروا هناك.
هو كان أكثر تململاً وتعبيراً عن الضيق من هذا الوضع. هي، قادها كرهها لفترة سيطرة حركة أمل على الضاحية، والتي كادت تودي بأحد أبنائها، إلى موقف متعاطف مع شباب الحزب. كانت “تصدمني” وأنا في أواخر الطفولة وبدايات المراهقة بتعاطفها هذا. أفكر بشهدائنا الشيوعيين “على يد القوى الظلامية” وقتها، وفي الطليعة ابن الضاحية ميشال واكد، وهي تقول إنّ بينهم “أوادم يا ستّي”. حتّى أنّني اشتبهتُ بأنّها انتسَبَتْ إلى “حزب الله” سرّاَ. طبعاً كانت تستثني من “الأوادمية” هذه، تلك الجماعة المنشقة عن الحركة، المنضمة إلى الحزب، وكانت تحمّل هذه المجموعة المنشقّة من الحركة إلى الحزب، دون سواها، مسؤولية خطف ابنها (قبل تحرير زاهر الخطيب له) ومسؤولية كل شيء آخر.
سركيس جدي، المنتمي أساساً إلى الفئة الكادحة، والقارئ المثابر، كان استقبل الثورة الإيرانية بقصيدة مديح كتبها للإمام الخميني ونشرتها له مجلة منظمة التحرير، “فلسطين الثورة
العالم الذي نشأتُ عليه كان يعج بالتناقضات بشكل فظيع. عندما دخل جيش اليرزة الضاحية عام 83 وأراد تزفيت الطريق امام منزل جدتي، وراء “فرن الأمرا” القديم، كانت النسوة ترمي على الجنود الرز، وجدّتي ترمي اللعنات. هي نفسها جدتي التي لفتت نظري أواخر الثمانينيات عندما رأس ميشال عون الحكومة المؤقتة إلى أنّهم كانوا جيران لسنوات طويلة في الماضي، في الحارة. كانت تبني موقفها منه من ذاكرتها عنه في سنوات صباه والنشأة. كانت تتخوّف. كان يجمع الصبية في الحي، ويصرخ فيهم: أنا نابليون.
قد نختلف يا لقمان حول ما كانت عليه الأمور قبل الثورة في إيران، أو قبل 6 شباط في الضاحية، أو في قياس 6 شباط على إيران. لن نختلف أبداً أنّها ساءت بعده سبيلاً، وأنّ اغتيالك اليوم جزء متقدّم من الاختناق العام الذي يصيبنا.
إقرأ أيضاً: لقمان سليم: الطفل “الشيطان” الذي لاعب الأسد!
الضاحية التي لم تعد موجودة كما كانت في الثمانينيات، وقبل أن تسمّى في فترة أمين الجميل، أعتقد، “ضاحية”، بهذا الإطلاق، بقيت مشتركاً بيني وبين لقمان حين نتقابل ونتحادث، بما يبتلع نصف الحديث في كلّ مرّة. المشترك الآخر كان شارع الحمرا. لقمان شارع الحمرا. حانوتة هاروت والمعالم الأخرى للمكان. كان شارعاً يعجّ بالكاراكتيرات، معظهم رحلوا، وأنت جرى اغتيالك الآن. عينان متّقدتان ووجه باسم وصوت. صوتك لم يهدأ منذ مقتلك في أذني. شفاهتك الفصيحة والأليفة، المتنقّلة برشاقة فطنة وخبث طفولي بين قريحة الوصف وقوّة المفهوم. القدرة على الوصف السوسيولوجي للأوضاع كما التحليل السياسي للمسارات كانت استثنائية عند لقمان. والقدرة على الغمز أيضاً. ممارسته السياسية كانت ممارسة أدبية إبداعية حتّى النخاع.
العراق.. والزيارة الأخيرة إلى الضاحية
بعد وفاة جدي وجدتي شحّت زياراتي إلى الضاحية. وتجذّر الموضوع بعد حزيران 2005، بعد مقتل سمير قصير وخالي جورج حاوي. وكنتُ وما زالتُ على قناعة مزمنة بأنّ هناك، في منظومة الممانعة، من هو وراء هذا النوع من الاغتيالات (القناعة conviction هي لزاماً ما لا برهان عليه، أما اليقين certitude فشيء آخر)، لكنّني في تموز 2006 كنتُ مجدداً على اختلاف كبير مع 14 آذار في موضوع حرب تموز، وبالأخص متنبّهاً إلى أنّ الانشطار في المعاش وفي السرد خلال هذه الحرب هو من أخطر ما يواجهه الكيان اللبناني في تاريخه.
في المقابل، وقفتُ بوضوح ضدّ تمادي مسلسل الاغتيالات، وضدّ 7 أيّار وأدّى ذلك إلى طردي من جريدة “السفير” يومها، وربحي دعوى الطرد التعسفي على الجريدة بعد ذلك بسنوات. بعدها، وفي عزّ التوتر يومها، طلب مني لقمان سليم أن أتكلم في ندوة في مركزه داخل الضاحية، مطمئناً بأن لا داعي لأيّ قلق. هو يضمن المسائل.
كنت عائداً يومها من زيارة إلى العراق، رفقة حازم صاغية وحسام عيتاني وبشار حيدر، ما بين أربيل وبغداد، قابلنا خلالها مختلف تلاوين الطيف السياسي العراقي: مسعود البرزاني، وحزب الدعوة، وعمار الحكيم، وأياد جمال الدين، وبرهم صالح، وعادل عبد المهدي. كان مرافقنا “الصحافي” مصطفى الكاظمي، أي بعد ذلك مدير المخابرات العراقية ثم رئيس وزراء العراق اليوم. كان الكاظمي لطيفاً ومساعداً، لكنّني كنت أطلب منه شيئاً واحداً بإلحاح: أن يعرّفنا على “عربي سنّي”، بعدما قابلنا قيادات شيعية وكردية عديدة. لم يحصل ذلك. إلا مرّة حين كنّا في بهو فندق الرشيد. قال لي مصطفى: “أنظر هناك، هذا طارق الهاشمي، بما أنّك سألتني عن عربي سنّي”. لاحقاً سوف يتّهم نوري المالكي طارق الهاشمي بمحاولة اغتياله، ويهرب الأخير.
آنذاك كان الكاظمي يقدّم لنا المالكي كشخصية لها مهارات قيادية للإمساك بالوضع والسير بين التناقضات لإعادة إحياء العراق. لكنّ الكاظمي عبّر عن استيائه حين قابل المالكي المرشد الإيراني الخامنئي دون أن يضع المالكي ربطة عنق، واعتبرها إشارة مقلقة.
السيارة في الطريق من مطار بغداد إلى المنطقة الخضراء سارت بشكل متعرج zigzag. السائق أوضح بأنّه لاعتبار أمني، فمن هذه الناحية مقاتلو تنظيم القاعدة، ومن تلك جيش المهدي. كنّا خارجين من محنة 7 أيّار المحلية بعد ونريد مدى أوسع لفهم ما يحصل. في الوقت نفسه أمطرتنا بغداد بالنقائض.
لقمان “الصاغي” أراد أن أقدم كل مشاهداتي آنذاك في ندوة، الندوة في “أمم” بالضاحية. كانت هذه آخر مرّة أدخل فيها إلى قلب الضاحية.
قد نختلف يا لقمان حول ما كانت عليه الأمور قبل الثورة في إيران، أو قبل 6 شباط في الضاحية، أو في قياس 6 شباط على إيران. لن نختلف أبداً أنّها ساءت بعده سبيلاً، وأنّ اغتيالك اليوم جزء متقدّم من الاختناق العام الذي يصيبنا
عدتُ من العراق غير مستوعب تماماً ما رأيت وما سمعت. عدت متشائماً أحاول أن أخفّف من تشاؤمي بذريعة أنّنا أمام مخاض. كان لقمان أكثر تفاؤلاً، لكنّه رغب في الاستماع إلى لوحة التناقضات كما عرضتها. في بغداد، حصل مثلاً أن توتر الجو في دارة عادل عبد المهدي حين قال لنا: “ماكو حرب أهلية في العراق”، وسألته: “ما هو عدد القتلى المطلوب بعد لنسمّها حرباً أهلية”.
لم يكن لقمان ببعد واحد، وكان يتقن التقاط ما تعرضه أمامه من تناقضاته، لكنّه كان مقتنعاً أنّه عندما يتعلق الأمر بالقرار، بالنشاط، عليك أن تؤثر دائماً معركة على أخرى. فيما، بالنسبة لي، كل شيء رهين الحصيلة الفعلية الملموسة في هذا المضمار.
أحببتُ في لقمان دائماً أنّه لا يكابر على ما هو شيعي في شخصيته، وأنّه يطرح مشكلته مع النموذج القائم في إيران بعد الثورة ومع حزب الله في لبنان ليس كشخص متجرّد من شيعيته، وأنما كشخص مقتنع تماماً بأنّ هذا النموذج المسيطر هو كارثي على التشيّع الإمامي.
كتّاب آخرون، مثل وضاح شرارة، مشكلتهم مختلفة. عند وضّاح هناك مشكلة تكوينية في أساس العلاقة بين الشيعة وبين لبنان، ودولة حزب الله تجد بداياتها في أحداث حصلت بين 1918 – 1920 في جبل عامل، أحداث عمل وضاح في “الأمة القلقة” لإظهار هشاشة انضوائها تحت سردية “حركات مناهضة للاستعمار الفرنسي” لا أكثر.
لقمان، ومن الضروري اليوم جمع آثاره، كانت لديه فكرة مختلفة. محورها قناعة واحدة وأساسية بأنّ نكبة التشيّع الإمامي كانت في السبيل الذي تطوّرت إليه بشكل سريع الثورة الإيرانية. ربما كان هناك مجال للمناقشة إذ كان لدى وضاح كره ذاتي اتجاه الانتماء الديني الجغرافي، أما عند لقمان فلم يكن هكذا الوضع أبداً. كان يتهم أعداءه، الخمينيين، بأنّهم مصابون بكره الذات.
الصحوة الشيعية
تطوّرت مواقفي على امتداد السنوات تجاه هذه السردية تقبلاً وتجاوزاً وتفاعلاً من جديد ثم تجاوزاً. وحصلتْ في أواخر صيف 2017 مناوشة غير مباشرة لبضع ساعات بيني وبين لقمان على فيسبوك أتبعها هو بنقد لمقالة اعتبرتُ فيها أنّ السيطرة الأمنية وحتى السياسية التي يمكن أن يحققها حزب الله على لبنان لا تتيح له الهيمنة الثقافية الشاملة، وبالتالي من دون هيمنة ثقافية لا يمكن أن يمأسس سيطرته نفسها. في اليوم التالي كتب لقمان مقالة نقدية، جزء منها تجاه طرحي هذا، وجزء منها تجاه مقالة لإيلي الحاج، لها منظار مختلف تماماً. قلتُ لنفسي، على غير عادة، “هيا نكسر الشرّ”. وضعتُ له لايكاً على نقده الساركازمي لي في المقالة، إذ وصف طرحي بأنّه “دالتوني”، مصاب بعمى الألوان.
انتهينا بأن تناقشنا طويلا في “التشيز”، على ساحة ساسين. أوضحت له ما أفكر، وبأنّ المشكل مشكلتين، حزب الله من جهة والانقسام حول حزب الله من جهة، وأوضح لي وجهة نظره: “إنّها مشكلة واحدة”. كرّر طلبه لي الكتابة في موضوع الضاحية، وفي موضوعات أخرى، ودعاني إلى زيارته في الضاحية. ضحكتُ: “بعد كل تشديدك بأنّ السيطرة لم تعد سيطرة فقط بل إطباق هيمني توتاليتاري كامل تدعوني هكذا إلى الضاحية”.
لقمان، ومن الضروري اليوم جمع آثاره، كانت لديه فكرة مختلفة. محورها قناعة واحدة وأساسية بأنّ نكبة التشيّع الإمامي كانت في السبيل الذي تطوّرت إليه بشكل سريع الثورة الإيرانية
في تلك القعدة بساسين عبرتُ له عن فكرة، سأنتهي بها الآن: أنّه من السبعينيات إلى يومنا، اتخذت الصحوة الشيعية سمات مختلفة في مجتمعات عديدة في المنطقة. أخبرته مثلا عن معايشتي للصحوة الشيعية في أعالي الهيملايا، باللاداخ، ناحية كارغيل وزانسكار، وكيف يمكنك أن تجد صوراً لحسن نصر الله وعماد مغنية في القرى النائية الصقيعية. ثم قلت له إنّ هذه الصحوة الشيعية في لبنان محكومة بتناقض فظيع. هي من جهة، الصحوة التي يعبر عنها ثنائي حركة أمل وحزب الله، وخصوصاً حزب الله، لكنّها من ناحية أخرى الصحوة التي هي أنتم، المثقفون الشيعة. قسم كبير منكم كان مع الثورة الإيرانية ثم انفضّ عنها. جمرة الإنتلجنسيا الشيعية مناهضة لحزب الله بالنتيجة، وهي أقلية في طائفتها يجري العمل على إخراجها من طائفتها، فيما الثنائي الشيعي لم يتمكّن من تحويل مركز الانتلجنسيا الشيعية إليه، ولو أنّه يستأثر، لنقل، بالأكاديميا الشيعية في الجامعة اللبنانية. في الوقت نفسه، هذه الإنتلجنسيا الشيعية المناوئة للحزب ولإيران، بعد أن كان معظمها عاقداً الرجاء على الثورة الإيرانية، هي الأكثر حيوية في لبنان إذا ما قارناها بالطوائف الأخرى.
إقرأ أيضاً: لقمان سليم مضرّجاً بشجاعته… كشف القاتل باكراً
قلت له هذا يعني أنّه، ولأجل إقامة هيمنة شاملة مشابهة للمارونية السياسية، ينبغي أن تتحقّق المعادلة التالية: “حزب الله زائد لقمان سليم يلزم أن يتعاونا معاً من أجل تحقيق هذه الهيمنة”.
ضحكنا ليلتها، ونحن الآن نبكيك لقمان. لكنّ هذه المعادلة، أنّ “السلاح الذي حين يطرد الفكر الحيوي من فضائه الأهلي يطرد قابليته للهيمنة”، حسمتها بالنتيجة رصاصات القاتل.
صورة لقمان عن قاتله لم تعد تختلف عن صورة هذا القاتل عن نفسه كثيراً. وهذا بالذات إن عنى شيئا فهو يعني أنّ مصرع لقمان سليم حدث لا يشبه أي حدث آخر في السنوات الماضية. إنّه بمثابة “تقويم” لزمن كامل ينتظرنا. بعد كل شيء، “الصحوة” التي اغتربت عن فعل الصحو، قتلت عند قتل لقمان بقية الروح فيها. الصحوة قتلت لقمان، وقتلت روحها. الصحوة خمدت، وحالنا كهوّة بين سفحين ونحن الآن فوق الهوّة.