في تعزية لصديق باغتيال لقمان سليم، قال لي: “قتلوا طفلاً”. وانتبهت إلى مدى دقّة هذا الوصف. لقمان سليم كان طفلاً، ليس بالمعنى الذي يحيل إلى البراءة، بل بالمعنى الذي يشير إلى “الشيطنة”. كان “شيطاناً” مشاكساً مخرّباً ومحرضاً بالاسئلة المفاجئة المعجونة بقوة البديهة على التفكير واعادة التفكير. قتلوا طفلاً، لأنّ لقمان سليم كان يعيش كما الأطفال، انطلاقاً من شغفهم باللحظة. وكانت رؤيته للغد غير مربوطة بأي تخطيط مرتبك، بل كان ينتظر الغد كما ينتظر طفل الصباح للذهاب في رحلة في المدرسة، بعد أن تعدّ أمّه (السيدة سلمى) زادهُ. كان لقمان “يلعب” في السياسة. لم يحترفها كمهنة تخصصية، بل اتاها من مجالات عدّة، من تخصصه في الفلسفة في جامعة السوربون في باريس، إلى شغفه بالحقوق والقوانين الذي ورثه من ابيه النائب السابق محسن سليم، إلى انهمامه بالتاريخ والذاكرة والأرشيف عبر تأسيس “أمم للتوثيق” و”ديوان الذاكرة اللبنانية”، مروراً بدار “الجديد” الذي أسّسه بعد انتهاء الحرب الأهلية مع شقيقته الكاتبة والروائية رشا الأمير وولعه بالكتب والإصدارات وانسحاره بالعناوين والأغلفة، وليس انتهاءً بنضاله السياسي المستند إلى نشاط واجتماعات ومقابلات تلفزيونية وحوارات وإصدار بيانات، وصولاً إلى اغتياله بخمس رصاصات بعد خطفه. كل هذه السيرة الشاسعة لم يخسر معها لقمان “شيطنة” الطفولة الأولى. وهذه “الشيطنة” دفعته إلى البحث والتفتيش والتنبيش والحفر في التراب بأصابعه بحثاً عن خيوط تقود إلى مزيد من المعرفة التي رأى فيها حقّاً وهدفاً ومشروعاً.
وكان “الشيطان” لقمان لا “يقعد عاقلاً”، بل يحضر مجموعات من الاطفال ليلعبوا في هنغاره ويزعجوا الجيران بأصواتهم وبتجاربهم وبِكُراتهم التي كانت تخرج بعد ركلها من سور الدار في حارة حريك لتكسر زجاجاً هنا أو تسقط راية هناك. وكان المكان – الملعب مغرياً للجميع، للكبار والصغار، ولحشرية الجيران. وكان ملعباً يستقدم ألعاباً من خردة الزمن ليبعثها من جديد مادة للتجديد والتطوير، من بوسطة عين رمانة التي أتى بها إلى الهنغار كشاهد على الحرب التي صدئت ولا تزال حاضرة بمتنها، إلى معارض الصور التي كان يقيمها كمن يشكّل بلعبة “بازل” صورة مكتملة عن البلاد المبعثرة كزجاج شظّاه انفجار.
قتلوا طفلاً، لأنّ لقمان سليم كان يعيش كما الأطفال، انطلاقاً من شغفهم باللحظة. وكانت رؤيته للغد غير مربوطة بأي تخطيط مرتبك، بل كان ينتظر الغد كما ينتظر طفل الصباح للذهاب في رحلة في المدرسة، بعد أن تعدّ أمّه (السيدة سلمى) زادهُ
لقمان سليم كان يلعب لعبة الذاكرة من خلال “الديوان” الذي أنشأه لحفظ كل أرشيف مرتبط بالحرب الأهلية اللبنانية منذ اندلاعها في العام 1975 وحتى لحظة اغتياله. وكما أكدت زوجته، المخرجة الألمانية مونيكا بورغمان، فإنّها مع العائلة ستكمل ما بدأه لقمان في هذا المشروع وغيره، خصوصاً أنّ مقتل سليم يدخل في السياق الذي عرف سليم منذ بداية عمله عليه، أنّه يشكل امتداداً للحرب الأهلية التي لم تنته، لأن المصالحات والمصارحات لم تحدث بين اللبنانيين، ولأنّ الخروج من الحرب مشى خطوة بخطوة مع الدخول في زمن الوصاية السورية الذي لم ينته إلا بالدم، عبر اغتيال رفيق الحريري، ومنذ ذلك التاريخ، حتّى اغتياله هو نفسه، تابع لقمان كل ما يتعلق بضحايا الاغتيالات والقتل، لا القتل السياسي فحسب، ولا القتل الجنائي، بل أيضاً القتل الذي يوضع في سياقات “فردية”، ويسقط ضحاياه سهواً في النسيان. من هنا كان لقمان سليم يعرف أنّ الذاكرة تقدر وحدها أن تدلّ اللبنانيين إلى مستقبلهم، وكان يعمل على ترميم هذه الذاكرة قدر الإمكان وحفظها لتكون مادة أرشيفية للباحثين والمؤرخين والطلاب والصحافيين، وقد وضعها كلها بصيغة منظّمة ومبوّبة في موقع إلكتروني متاح للجميع. كما عمل مع مخرجين اصدقاء ومع زوجته على إنتاج أفلام وثائقية، واستحدث صالة سينما صغيرة في “الهنغار”، يقيم فيها العروض تليها نقاشات في مضامين الأفلام.
إقرأ أيضاً: ولماذا ينفي “الحزب” قتل لقمان؟
في معرض صور للمصور مروان طحطح أقيم في “الهنغار” قبل شهرين من اغتياله، كان لقمان سليم يخبر الحاضرين عن الطريقة التي اعتمدها ليصنع نسخاً من “بلوكات” الإسمنت التي وضعتها السلطة لحماية مجلسيّ النواب والوزراء، لتكون بمثابة سينوغرافيا لمعرض مروان الذي وضع لقمان له عنوانه بألمعيته وموهبته في انتقاء العناوين: “بين تشرين وتشرين”. كان يخبر رواد المعرض من أصدقائه كيف استقدم حداداً ليصنع له قوالب على شكل هذه البلوكات، وكيف قام بتحريكها من مكان إلى آخر داخل “الهنغار” باستخدام “القساطل”. كان يتحدث عن الأمر بشغف نحّات، يُعمل إزميله في صخرة كبيرة، وكان شديد الوله بالمجسّمات والصور وقصاصات الورق ونسخ الجرائد القديمة. مرّة قام بشراء كل ما يتواجد داخل مبنى صحيفة كانت تنوي الانتقال إلى مبنى آخر من أوراق جرائد وملاحظات وكل ما يمكن أن يترك فيها، وأخذه كله إلى الهنغار لتعريبه واستخلاص قصاصات منه لاستخدامها في أمكنتها داخل “ديوان الذاكرة اللبنانية”. كان شغوفاً بالبحث عن تفاصيل واستعادة الصور الكاملة من خلالها. وكان من قصاصة صغيرة قادراً على اجتراح حكاية تروى. وكان يستخدم لغته العربية الأنيقة والمتمكّنة، المتأثّرة بصحبته للشيخ عبدالله العلايلي وأعماله في شبابه، لكي يصيغ الحكايات ويترجمها إلى نصوص ينشرها في دفاتر وكتيّبات وكتب ومجلّدات.
“قتلوا طفلاً”، قال لي الصديق. وقد كان لقمان طفلاً في حديقة حيوانات، يحاول الجميع أن يثنيه عن التقدم للعبث مع الأسد خلف القضبان. لكنّه كان بشجاعة لا تعرف خوفاً أو تردّداً يمدّ يده ليلاعب الأسد.