النائب العام التمييزي. أعلى منصب قضائي في لبنان يجعل من شاغله “حاكم لبنان القضائي”. لكنّ شاغله الحالي القاضي غسان عويدات يرفض أن يبسط يد صلاحياته في وجه “قاضية القصر”، غادة عون، نائب عام جبل لبنان. وذلك على الرغم من كلّ الاتهامات لها بأنّها تخالف القانون وتتخطّاه، وعلى الرغم من السند والدعم والتغطية السياسية والشعبية، وحتّى الطائفية، التي قد يحصل عليها القاضي عويدات، والتي كان ليحصل عليها فعلاً، لو قرّر تنفيذ القانون، وليس مخالفته مثلما تُتّهم عون بأنّها تفعل… لكنّه لا يفعل.
إقرأ أيضاً: عون تلاحق سلّوم فقط: لماذا يقف عويدات في الوسط؟
يُنقل عن عويدات قوله في مجالسه الخاصة: “سئمتُ مواجهة الميليشيات القضائية. هؤلاء ميليشيات وليسوا قضاةً… أنا رفعت العشرة!”.
حين تقول أعلى مرجعية قضائية في لبنان هذا الكلام، فماذا تترك لنا نحن المواطنين العاديين الذين لا حول لنا ولا قوة وهي التي يفترض بها أن تكون حكماً نزيهاً بين المتخاصمين؟
قول مصادر قضائية، إنّ عون طلبت من سبعة محامين عامين في جبل لبنان، يعملون تحت يدها، أن يتولّى أحدهم هذا الملفّ، واشترطت على من يقبل منهم أن تنحصر مهمته فقط بالتحقيق، على يكون قرار التوقيف بيدها، لكنّ جميع المحامين العامين رفضوا، وشددوا على تمسكهم بالقيام بواجبهم وترك الحرية لهم بإصدار أيّ قرار
إلى هذا الحد يتوجّس عويدات من غادة عون؟ أم يتوجسّ من مرجعيتها في بعبدا التي تمنحها غطاءً لا حدود له في كل صغيرة وكبيرة، وحاضرة دوماً لممارسة الضغوط لحمايتها؟ أم أنّ الشغور في رئاسة الحكومة بات مرضاً مثل فيروس كورونا، تنتقل عدواه في الهواء فيتسلّل إلى أفئدة الشخصيات السنية بحمّى الـ”أنا”؟
مطلع الأسبوع الفائت، ضجّت الصحف والمواقع الاخبارية بخبر إحالة عويدات القاضية غادة عون إلى التفتيش القضائي لإصرارها على إصدار بلاغات بحث وتحرٍّ ومنع سفر بحق مدير عام هيئة إدارة السير والآليات والمركبات هدى سلوم خلافاً للقانون، ومن باب الكيد. ظنّت وسائل الاعلام، عن حسن نية في حينها، أنّ عويدات فعلها وانتصر للحق. لكن تبيّن لاحقاً أنّ عويدات لم يحل القاضية عون إلى التفتيش القضائي، بل أحال الكتاب الذي أرسله وزير الداخلية والبلديات محمد فهمي إليه، والذي يطلب فيه من القاضي عويدات، بما أنّه المرجعية العليا لكل النيابات العامة وبالتالي لغادة عون، أن يكفّ بلاغات البحث والتحرّي وقرار منع السفر عن موظفي وزارته ومنهم سلوم، بعد أن ضربت عون بعرض الحائط قراره الذي أبلغها فيه الوزير فهمي خطيّاً، رفضه استدعاء الموظفين الخمسة إلى التحقيق. وقد استند فهمي في طلبه إلى تخطّي عون نظام الموظفين أوّلاً، وقانون أصول المحاكمات الجزائية ثانياً، بالإضافة إلى وجود دعوى جزائية مقامة من سلوم ضد عون، وأخيراً لأنّ القضية سبق وأحيلت على جهة قضائية أخرى وهي النيابة العامة المالية، وبالتالي لا يجوز التحقيق في ملف واحد أمام نيابتين عامتين!
معلومات خاصة كشفت لـ”أساس” أنّ عون “تعلم جيداً أنّ القانون لا يجيز لها التحقيق مع سلوم وبالتالي إصدار مثل هذه البلاغات”، لأنّ بحق عون دعوى رفعتها سلّوم نفسها بوجهها. ولهذا، تقول مصادر قضائية، إنّ عون طلبت من سبعة محامين عامين في جبل لبنان، يعملون تحت يدها، أن يتولّى أحدهم هذا الملفّ، واشترطت على من يقبل منهم أن تنحصر مهمته فقط بالتحقيق، على يكون قرار التوقيف بيدها، لكنّ جميع المحامين العامين رفضوا، وشددوا على تمسكهم بالقيام بواجبهم وترك الحرية لهم بإصدار أيّ قرار”.
ما هي الدعوى التي رفعتها سلّوم على عون؟
تشير المصادر، إلى أنّه حين أصدر قاضي التحقيق الأوّل في بيروت جورج رزق قراراً بترك سلّوم حرّة، اتصلت القاضية عون بآمر سجن قصر العدل في بعبدا، الذي كان متجهاً إلى تنفيذ قرار الترك الساعة السابعة مساءً، وطلبت منه عدم تنفيذ القرار. وحين قال لها إنّه لا يوجد مسوّغ قانوني لعدم تنفيذ هذا القرار، قالت له: “انتظرني أنا آتية إلى قصر العدل مساءً”. وحين وصلت، استدعت الضابط المذكور، وتناولت ورقة بيضاء وختمتها، وكتبت عليها أمراً بتوقيف هدى سلّوم. وحين سألها الضابط عن الملفّ الذي على أساسه أصدرت قرار التوقيف، أجابته: “هذا ليس شأنك”. وأبقتها موقوفة، ما اعتبر وكلاء دفاع سلّوم أنّه يشكّل “جرم احتجاز الحريّة”، وعلى هذا الأساس تقدّموا بدعوى بوجهها أمام القاضي غسان عويدات ولا تزال الدعوى عالقة.
المشكلة مع مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات لا علاقة لها بملف من هنا أو بملف من هناك، وإنما تتعلّق بشكل مباشر بمسألة تطبيقه للقانون وللصلاحيات المعطاة له
هي نفسها غادة عون التي أوقف الرئيس ميشال عون التشكيلات القضائية ورفض توقيعها حرصاً على عدم تطييرها من موقعها. وهي التي قفزت من فوق نظام الموظفين وقانون أصول المحاكمات وقرار وزير الداخلية والبلديات وأصدرت بلاغات البحث والتحرّي ومنع السفر وأرسلتها إلى الجهات الأمنية المعنية للتنفيذ. وتفيد المعلومات بأنّ هذا الأمر أغضب وزير الداخلية واعتبره تحدّياً شخصياً له، فأرسل الكتاب إلى عويدات طالباً منه سحب جميع الملفات المتعلقة بهيئة إدارة السير من دائرة القاضية غادة عون وإحالتها إلى قاضٍ حيادي لاستكمال التحقيقات، بالإضافة إلى طلبه العودة عن بلاغات البحث والتحرّي وقرارات منع السفر.
لكن بدل أن يستعمل عويدات صلاحياته لسحب الملفات ووقف البلاغات وقرارات منع السفر، وهي من صلب صلاحيته، وفقاً لقانون أصول المحاكمات الجزائية، أغفل هذه الصلاحيات، “وقال إنّه لا يملكها” بحسب مصادر متابعة لما جرى. ثم أحال كتاب الوزير إلى رئيس هيئة التفتيش القضائي، القاضي بركان سعد، وإلى رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود، والأخير عاتب على عويدات لتجميده أكثر من 5 ملفات بحقّ غادة عون موجودة في أدراج مكتبه ولا يحرّكها حرصاً على “عدم قطع الخيط” مع قصر بعبدا.
غسان عويدات يعلم جيداً أنّ منصب القاضي سهيل عبود رمزي في هذا الشأن، وأنّه هو المرجعية العليا لغادة عون، ولا صلاحية قضائية لعبود في هذا الشأن. لكنّ عويدات تجاهل صلاحياته، في محاولة للفلفة الأمر تجنّباً لإغضاب “القصر” مجدداً، والذي سبق أن وصله منه اتصال حذّره من التعرّض لغادة عون. إذ ذكرت مصادر قضائية لـ”أساس” بأنّ هذا الأمر حصل حين أصدر عويدات تعميماً بعد تعيينه نائباً عاماً لدى محكمة التمييز، وجهه إلى المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، لتعميمه على كل القُطُعات ومضمونه، عدم قبول أيّ إشارة من القاضية غادة عون. حينها تلقّى بعد أيام اتصالاً هاتفياً من المرجع الأوّل، طالباً منه العودة فوراً عن القرار “وإلّا”. ولا تزال هذه الـ”وإلّا” تطنّ في أذنيه على ما يبدو، في اعتداء صريح وكبير على النصّ الدستوري الذي يفصل السلطات الثلاثة، ويمنع السياسيين مهما علا شأنهم من التدخّل في عمل القضاء.
أما عن إحالة الملف إلى رئيس التفتيش بركان سعد (المنصب الثاني الأقوى سنّياً في القضاء)، فتقول المعلومات إنّ الأخير “زار القاضية عون ثلاث مرّات في مكتبها خلال الشهرين المنصرمين، على الرغم من وجود أكثر من عشرين شكوى لدى التفتيش القضائي ضد القاضية عون. ما يجعل زيارة القاضي بركان سعد للقاضية عون في مكتبها يطرح علامات استفهام.
فهل يظن عويدات أنّ من يزور القاضية غادة عون قادر على “إجراء المتقضى القانوني”؟
المشكلة مع مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات لا علاقة لها بملف من هنا أو بملف من هناك، وإنما تتعلّق بشكل مباشر بمسألة تطبيقه للقانون وللصلاحيات المعطاة له. وقد سمع محيطون بعويدات أنّه “يعتبر نفسه بلا ظهر سياسي”، أي أنّ مشكلته تتعلّق بغياب الزعامة السنيّة القويّة القادرة على حمايته، ما يجعله عرضة لتهديدات “القصر” وحاشيته ومستشاريه. في حين أنّ غالبية اللبنانيين تعتبر عويدات وموقع النيابة العامة التمييزية الظهر الذي يستطيعون الاستناد إليه دون الحاجة إلى زعامة من أيّ طائفة كانت.
المؤسف أنّ غادة عون تخالف القوانين وتُغطّى سياسياً، لكنّ عويدات حين يُغطّى ليطبّق القوانين… يتمهّل.