من استمع إلى سمير جعجع أمس كان ليظنّ أنّ قائد القوات اللبنانية بدأ يحضّر بدلته الزيتية. إستعرض المئات من الكشّافة، شباباً وشاباتٍ، بالمشية العسكرية، “المارش” الذي بات ماركة مسجّلة لحزب الله. كما لو أنّه يقول إنّ لديه المئات، وربما الآلاف، من الجاهزين والجاهزات لحمل السلاح.
كان صوت “الحكيم” هادراً ، يتحدّث عن الشهداء، وعن “المقاومة اللبنانية” وعن مواجهة الممالك والإمبراطوريّات والسّلطنات وأعتى الدّكتاتوريّات والأنظمة في أيّامنا. قالها وكان أقرب ما يمكن تذكّره أنّ قائد القوات كان الوحيد الذي تجرّأ وقال “لا” للرئيس الفرنسي. في الاتصال بينهما، طلب منه تسمية مصطفى أديب، لكنّ جعجع رفض، وسمّى نواف سلام.
هذا ليس تفصيلاً.
إقرأ أيضاً: “نيو” جعجع: تحييد حزب الله ومعابره العسكرية.. وعون
بالطبع فإنّ المناسبة تفرض نوعاً من التصعيد العاطفي والعنفواني. لكنّ الرجل ذهب أبعد هذه المرّة. الرجل الذي اعتاد لسنوات خلت أن يسلك درب “التمهّل” في الخلاف مع حزب الله، قرّر تغيير لهجته أمس والاتجاه نحو “التصعيد”.
وهذا تغيير استراتيجي في خطاب زعيم سياسي قال قبل 6 أشهر: “روحوا إنتو قشّطوا حزب الله سلاحو”، ردّاً على صحافيين وناشطين، كان يحاورهم في معراب، حين سألوه عن سبب “تحييد” الحزب عن خطاباته.
“تسليم السلاح” وليس “الحياد” فقط. يريد جعجع استعادة لغة آذار 2005. كأنّه يقرأ عودة مناخات تلك الأيام، في الداخل والخارج. ياتي كلامه هذا في لحظة “تسوية” يحاول إيمانويل ماكرون تسويقها وتنفيذها في لبنان، وحزب الله داخلها
اليوم يقرأ جعجع في التغييرات الإقليمية وفي التبدلات الدولية. ويبدو أنّ رادارته التقطت ما ينبىء بأنّ المراهنة على مهادنة حزب الله، ما عادت مربحة. أو أنّه قرّر بدء حملته الانتخابية باكراً، لعلّ الانتخابات النيابية تأتي مبكّراً، ويكون قد حجز لنفسه مقعداً في باص التصعيد السياسي والطائفي.
أعلن جعجع أمس الحرب على حزب الله وسلاحه. طالب بتطبيق اتفاق الطائف، لجهة “حلّ جميع الميليشيات اللّبنانيّة وغير اللّبنانيّة، وتسليم أسلحتها الى الدولة اللّبنانيّة خلال ستّة أشهر تبدأ بعد التّصديق على وثيقة الوفاق الوطنيّ وانتخاب رئيس الجمهوريّة وتشكيل حكومة الوفاق الوطنيّ وإقرار الإصلاحات السّياسيّة بصورة دستوريّة”.
“تسليم السلاح” وليس “الحياد” فقط. يريد جعجع استعادة لغة آذار 2005. كأنّه يقرأ عودة مناخات تلك الأيام، في الداخل والخارج. ياتي كلامه هذا في لحظة “تسوية” يحاول إيمانويل ماكرون تسويقها وتنفيذها في لبنان، وحزب الله داخلها.
لكن للحكيم رأي آخر. يريد التصعيد. وقد أطلق أمس صواريخه السياسية على تفاهم “مار مخايل” الموقّع بين حزب الله و”التيار الوطني الحرّ” في 2006. فاعتبر أنّ “هنالك كلمة سحريّة تختصر أسباب كلّ ما وصلنا إليه: تفاهم مار مخايل”. هكذا نسب إلى هذا التفاهم كلّ أسباب الخراب العميم الذي نعيشه.
لم يقل لنا لماذا، لكن منعاً للتساؤل، دافع عن تفاهم معراب الذي اعتبره “مصالحة وجدانيّة تاريخيّة أخلاقيّة، تطوي صفحة صراع مجتمعيّ مديد…”. لكن “للأسف، مكرّرة عشرات المرّات، تبيّن لاحقا أنّ الطّرف الآخر أراده مجرّد مصلحة سياسيّة آنيّة بحتة، وبعكس كلّ ما ورد في اتّفاق معراب”.
كان جعجع أمس “حكيماً”. صوّب البوصلة نحو “السلاح”. أعاد إعلان استعداده ليكون رأس حربة مواجهة المشروع الإيراني، مع امتداداته الفرنسية، وكانت يده على الزناد
إذاً: أخطأ ميشال عون حين “تفاهم” مع حزب الله، وأصاب جعجع حين تفاهم مع ميشال عون وأوصله إلى بعبدا؟ لا بأس. لكن ينسى جعجع أنّ ساكن “القصر” جزء من أسباب “كلّ ما وصلنا إليه”، وليس تفاهم مارمخايل وحده.
جعجع كان أقرب إلى “ذكرى” القوّات وإرثها أمس، من صورة “الزاهد” التي حاول تسويقها عن نفسه طوال 15 عاماً. لم يكن زاهداً، بل كان مقاتلاً، بالاستعراض شبه العسكري، والهجمات المكثّفة، التي لم يستثنِ منها، ولو تلميحاً، حزب “الكتائب”، ومرّ على “الفاسدين”، وصولاً إلى اعتراضه على شعار “كلن يعني كلن” الذي يشمله هو وحزبه، بتاريخه وحاضره وخياراته التسووية في أحيان كثيرة.
كان جعجع أمس “حكيماً”. صوّب البوصلة نحو “السلاح”. أعاد إعلان استعداده ليكون رأس حربة مواجهة المشروع الإيراني، مع امتداداته الفرنسية، وكانت يده على الزناد. لم يكن ذلك الرجل الذي يحلم بكرسي بعبدا. كان أقرب إلى صورة “القائد”، التي يحبّها، وتحبّه.
على أمل ألا “يتمهّل” مجدّداً.