لا جدال في حقّ النوّاب، لا سيما التغييريّين، الذين اعترضوا على تدخّل “القناصل” في تحديد اسم رئيس لبنان ورفضهم المسّ بـ”السيادة”. إلّا أنّ اتّخاذ البعض الآخر هذا التدخّل ذريعة لعدم انتخاب العماد جوزف عون يستدعي الضحكة الصفراء. كذلك الحديث عن مخالفة الدستور بانتخاب قائد الجيش، كأنّه لم يُنتهك على مدى أكثر من ثلاثة عقود وأكثر.
لا حاجة إلى القول إنّ بعض من أظهروا غيرتهم على الدستور كانوا يدوسونه. وقد يكون تمسّك التغييريين به على غرار ملحم خلف وصحبه صادقاً.
الأمر مضحك لمن يتذكّر تاريخ اختيار رؤساء الجمهورية والحكومة قبل وبعد اتفاق الطائف، إبّان الوصاية السورية ثمّ الإيرانية. فجَمعُ فترات تعطيل انتخاب الرئيس منذ تسعينيات القرن الماضي (علاوة على تعطيل الحكومات) يكفي لاحتساب السنوات الضائعة على البلد.
بين التّدخّل الحاليّ والتّدخّلَين الأسديّ والإيرانيّ
تقتضي الواقعية الاعتراف بأنّ فرض المجتمع الدولي اسم الرئيس جوزف عون، وما تخلّل نقاشات الموفدين الدوليين والعرب مع الفرقاء اللبنانيين، تمّا بـ”شفافيّة”. فالأمر حصل في شكل واضح ومن دون كفوف. لم يعتمد هذا التدخّل الحِيَل والمناورات ومحاولات التذاكي التي كانت تجري في السابق.
إن خانت الذاكرة من اعترضوا على وضوح الموفدين الأميركي آموس هوكستين والسعودي الأمير يزيد بن فرحان والموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان بدعم جوزف عون، فإنّ النظام السوري الأسديّ و”الحزب” (وإيران عبر سفرائها)، مارسا لعقود تدخّلهما الضاغط بوسائل أمنيّة وصولاً إلى الاغتيالات. مدّدت هذه الوسائل التعطيل في كلّ مراحله لتيئيس الخصوم وكي يقبلوا بما يفرضه اختلال التوازن واستخدام العنف.
كان يكفي تلميح “الممانعة” بالاسم المطلوب لإجبار قيادات وزعامات على الانصياع للخيار الذي يسهّل مصادرة قرار السلطة لأهداف إقليمية.
أبقى المعارضون على ورقتهم “مستورة” حتى الساعات الـ48 السابقة على الجلسة
الصّفحة الجديدة: الخروج من منطق السّاحة
تلك صفحة طُويت في 9 كانون الثاني، بعدما استجلبت التدخّلات السورية ثمّ الإيرانية الويلات على لبنان باسم “حماية المقاومة”. فهي حماية لحروب “الحزب” في الإقليم، وآخرها حرب الإسناد الكارثية التي ثبّتت فداحة الأخطاء في تقدير مآلاتها. هذا من دون نسيان التدخّلات في سائر المؤسّسات اللبنانية القضائية والأمنيّة والإدارية.
فُتحت أول من أمس الصفحة الجديدة في كتاب استعادة لبنان عافيته من إرث التدخّلات الأسديّة والإيرانية بانتخاب قائد الجيش رئيساً. أوّل الأسطر في تلك الصفحة استعادة الثقة وخروج البلد من العزلة الدولية التي غرق فيها لسنوات. فالمجتمع الدولي كان يتعاطى معه على أنّه ساحة للنفوذ الإيراني وليس دولة لها قرارها.
بات البحث في سبل تنفيذ خطاب القسم للرئيس جوزف عون، الذي شكّل برنامج عمل شاملاً لمعالجة الأزمة الخانقة في البلد. وبات البحث في أدوات الإفادة من الاهتمام الدولي العربي، ولا سيما السعودي، لانتشاله من الهوّة السحيقة.
مناورة المعارضة: إبقاء التّرشيح مستوراً
في انتظار البداية في تشكيل الحكومة، يمكن ذكر عوامل كثيرة داخلية وخارجية واكبت ربع الساعة الأخير لجلسة البرلمان الانتخابية، منها على سبيل المثال لا الحصر:
1- أنّ المعارضة الداخلية استفادت من الزخم الدولي العربي الذي وفّرته دول الخماسية المعنيّة بإنهاء الفراغ الرئاسي، خلافاً للانطباع بأنّها غير فعّالة ومنقسمة. وقد اعتمدت في الأسابيع السابقة على جلسة الانتخاب مناورات محسوبة:
– رسا خيار معظم مكوّناتها على قائد الجيش للرئاسة بعدما التقطت الإشارات الأميركية والفرنسية والسعودية. لكنّها تريّثت في تبنّيه علناً، تفادياً لرفضه من قبل فريق الممانعة، لأنّ هذا التبنّي يحوّله مرشّحَ تحدٍّ. فالثنائي الشيعي كان يسعى إلى تزكية غيره.
القوى المخالفة لخيارات الثنائي الشيعي في الرئاسة أخذت تبتعد عن خطاب هزيمة “الحزب” أمام إسرائيل، الذي يوحي بنهايته وبهزيمة الطائفة الشيعية
أبقى المعارضون على ورقتهم “مستورة” حتى الساعات الـ48 السابقة على الجلسة. وهم استندوا إلى دعم كتلة “اللقاء الديمقراطي” ووليد جنبلاط لهذا الترشيح في 18 كانون الأوّل. فالأخير تأكّد من التوافق الدولي العربي على اسم قائد الجيش بلقاء جمعه ورئيس الحزب الاشتراكي تيمور جنبلاط مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 7 كانون الأوّل. واستكمل جنبلاط الأب معطياته بتشاوره مع سائر أعضاء اللجنة الخماسية، الذين شجّعوه على إعلان تبنّي ترشيح القائد.
اعتبر قادة المعارضة، حسبما أبلغوا “أساس”، أنّ صدور تبنّي الترشيح عن “اللقاء الديمقراطي” جنّبهم اعتباره مرشّحَ تحدٍّ في حال دعمته مكوّناتها مع حزب “القوات اللبنانية”. وهذا ساعد في إحباط اندفاع “الثنائي الشيعي” بمرشّحين آخرين يرتاحان إليهم. ولم يصدر تبنّي الترشيح إلّا عشيّة الجلسة، بعدما نضج قبول الثنائي الشيعي بهذا الخيار.
استدراج “الحزب” لمناورة ترشيح جعجع
– اقترن تكتيك المعارضة هذا مع ما يمكن وصفه بـ”مناورة” أخرى، عبر التلويح بإمكان ترشيح “القوات” لسمير جعجع. فالأخير ترك الباب مفتوحاً على خطوة كهذه، بقول نوّابه إنّه مرشّح “طبيعي”، وبإعلانه أنّه يترشّح في حال وجد قبولاً من كتل أخرى.
لكنّ حقيقة الأمر أنّ جعجع أبلغ من يلزم أنّه في حال أعلن ترشيحه يدرك أنّه لن يحصل “إلا على أصوات نواب كتلة “القوات” وربّما بضعة نوّاب آخرين”، ولذا لا ظروف مؤاتية لذلك، كما حصل حين دعمت ترشيحه قوى 14 آذار في 2016. تناولت وسائل الإعلام هذا الاحتمال لأسبوعين استفادت خلالهما “القوات” منهما للترويج لرئيسها. لكن في واقع الحال، استدرجت تلك المناورة “الحزب” إلى فرصة رفضه وإشهار الفيتو ضدّه، فيما ترشيحه لم يكن وارداً عمليّاً. وفّرت تلك المناورة لـ”الحزب” أرضيّة للقبول بخيار جوزف عون على أنّه إحباط لترشيح خصم لدود له.
هذا التسلسل في الوقائع حتّم على برّي الانسجام مع دعوته إلى التوافق، ولم يكن ممكناً له أن يتخلّى عن هذا التوجّه
برّي والتّحوّلات… لا سيما السّوريّة
2- أنّ الرئيس نبيه بري كان أخذ خياره بالانضمام إلى “التوافق” على اسم العماد عون قبل أيام من جلسة الانتخاب. فمع محاولاته السابقة لتحقيق التوافق على مرشّحين آخرين غير عون، أبقى الباب مفتوحاً على هذا الخيار. ومنذ أبلغه جنبلاط الأب والابن نيّة ترشيح الجنرال وضع في حسابه التعاطي بجدّية معه. من تداولوا في الغرف المغلقة مع برّي في الخيارات الرئاسية أوضحوا لـ”أساس” جملة معطيات:
– أنّ بري أدرك عمق التحوّلات الإقليمية الحاصلة، التي تفرض انسجاماً لبنانياً معها في المرحلة الجديدة. ومع أنّه سعى إلى تحقيق التوافق على غير قائد الجيش، فإنّ انزعاجه من حصر الموفدين الخيار به لم يلغِ استيعابه لآثار الحرب الإسرائيلية على لبنان.
كما أنّ تعامله مع سقوط النظام في دمشق كان مختلفاً عن قراءة “الحزب” في هذا الشأن. فبرّي حليف “الحزب” لبنانياً، لم يكن شريكاً له في حربه في بلاد الشام. وكانت علاقته متوتّرة مع النظام الأسديّ لهذا السبب. بل كان يتوقّع أن يأتي يوم يحصل فيه تغيير في بلاد الشام.
لذلك أخذ مسافة من “الحزب” في هذا الشأن. ومن الأسباب الضمنيّة لذلك أنّه كان يحتاط لردّة الفعل إزاء الطائفة الشيعية في حال حصل التغيير في دمشق، فيما يعتبر أنّ أمانة الطائفة بين يديه.
– أنّ بري يدرك الحاجة الملحّة إلى الدعم الدولي والعربي، ولا سيما السعودي، من أجل إعادة إعمار ما هدّمته إسرائيل في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية. فمن دونه يستحيل عودة النازحين إلى قراهم. لكنّ الدعم الخارجي كان مشروطاً بمجيء رئيس موثوق من المجتمع الدولي.
الإخراج الذي وفّره برّي لمماشاة خيار العماد جوزف عون للرئاسة استند إلى تمسّكه منذ أشهر بمبدأ “التوافق”
– الإخراج الذي وفّره برّي لمماشاة خيار العماد جوزف عون للرئاسة استند إلى تمسّكه منذ أشهر بمبدأ “التوافق”. احتاط رئيس البرلمان لذلك منذ أن صدر عنه وعن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووليد جنبلاط في 2 تشرين الأوّل الماضي البيان المشترك الذي شدّد فيه على الالتزام بالنداء المشترك الأميركي الفرنسي (على هامش أعمال الجمعية العامّة للأمم المتحدة في نيويورك) الداعي إلى وقف فوريّ لإطلاق النار والشروع في خطوات لتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 1701.
هذا البيان تبنّته السعودية وقطر، إضافة إلى مجموعة الدول السبع، وأكّد “انتخاب رئيس وفاقيّ للجمهورية يطمئن الجميع ويبدّد هواجسهم المختلفة”، وأيّدت مضمونه القمّة الروحية التي انعقدت في البطريركية المارونية بعد أيّام. هذا التسلسل في الوقائع حتّم على برّي الانسجام مع دعوته إلى التوافق، ولم يكن ممكناً له أن يتخلّى عن هذا التوجّه.
– أنّ القوى المخالفة لخيارات الثنائي الشيعي في الرئاسة أخذت تبتعد عن خطاب هزيمة “الحزب” أمام إسرائيل، الذي يوحي بنهايته وبهزيمة الطائفة الشيعية. أخصام “الحزب”، من المعارضين و”القوات اللبنانية” و”الكتائب”، أخذوا يعتمدون لغة مختلفة تلاقي دعوة برّي إلى التوافق، ما دامت هناك حاجة إلى أصوات نوّاب الثنائي الشيعي لضمان أكثر من 86 صوتاً للعماد عون، من أجل النهوض بالبلد بدءاً بإنهاء الفراغ الرئاسي.
إقرأ أيضاً: لبنان… عودة الأمل وخروج من الأسر الإيرانيّ
لقي تشديد رئيس الكتائب سامي الجميّل على ضرورة عدم استبعاد أيّ مكوّن، ونائب رئيس “القوات” جورج عدوان على أهمّية التوافق مع الثنائي، صدى إيجابياً قبل التصويت لعون. وتردّد أنّ جنبلاط لعب دوراً مع قوى المعارضة في هذا الشأن.
لمتابعة الماتب على X: