عاثرٌ جدّاً حظّ سليمان فرنجية. مرةً، واثنتيْن وثلاث مرّات، بلغت الرئاسة حلقه، لتُسحب في اللحظات الأخيرة، فيقف على أعتاب القصر عاجزاً عن دخوله، ويعود أدراجه خائباً. وهذه الجولة لا رابعة لها. إمّا أن يكون رئيساً أو لن يكون بعد ذلك، كما سبق له أن أبلغ حلفاءه من أنّها محاولته الأخيرة التي سيلعبها حتى الورقة الأخيرة. وها هو يرفع راية الاستسلام أمام قدرٍ خانه ثلاث مرّات، ومنعه من تبوّؤ سدّة الرئاسة، ليسلّم شعلة الترشيح لآخر. فمن سيكون “سيّد” الموارنة؟
إذاً، أبلغ رئيس “تيار المرده” حلفاءه، بشكل واضح وصريح، ومنهم “تكتل التوافق الوطني”، أنّه بات خارج السباق، نازعاً بذلك ورقة المناورة بترشيحه، ليصير شريكاً في تسمية الرئيس المقبل، كما غيره من القوى السياسية، وتبعاً لحجمه التمثيلي، لا صانعه، كما كان يظنّ البعض في وقت سابق… خصوصاً اذا كان المقصود قائد الجيش العماد جوزف عون.
لا يتردّد فرنجية في القول صراحة إنّه داعم لوصول قائد الجيش إلى قصر بعبدا. وهذا ما سبق أن اتّفق عليه الرجلان حين التقيا على مائدة العشاء في كانون الأوّل من عام 2023 بعد مرحلة من الجفاء سادت بينهما. وهذا ما حصل بالفعل، إذ يغلّب القطب الزغرتاوي ترشيح العماد عون على غيره من الترشيحات، لا سيما تلك التي يراها مُتحكَّماً بها عن بُعد من جانب خصومه، وتحديداً رئيس “التيار الوطني الحرّ” جبران باسيل.
استطراداً صار مؤيّدو فرنجية أحراراً في خياراتهم المستقبلية، مع العلم أنّ رئيس مجلس النواب نبيه برّي كان أوّل من قفز من مركب القطب الزغرتاوي، باحثاً عن ترشيح توافقيّ قادر على عبور الاصطفافات… فيما “الحزب” كان لا يزال حتى أيّام خلت يتحدّث عن دعم فرنجية والعمل على جمع أصوات مؤيّدة له.
وفي هذا الإطار، عُقد أمس لقاء بين النواب فيصل كرامي وفؤاد مخزومي وعبد الرحمن البزري من باب تفعيل التشاور بين الكتل النيابية السنّية حيث من المرجح أن يشمل المشروع الحواري الذي يقوده كرامي، “تكتل الاعتدال الوطني”، ونواباً سنّة مستقلين، في سياق العمل على توحيد الصف إزاء الملف الرئاسي.
صار مؤيّدو فرنجية أحراراً في خياراتهم المستقبلية، مع العلم أنّ رئيس مجلس النواب نبيه برّي كان أوّل من قفز من مركب القطب الزغرتاوي
الرّئاسة في أمتارها الأخيرة
عمليّاً، سواء نجح الرئيس برّي في مخطّطه لتسجيل يوم التاسع من كانون الثاني في سجلّ الرئاسة الذهبي، أو تمّ تأجيل الاستحقاق لأيّام قليلة، فالوقائع والاتّصالات تدلّ على أنّ الاستحقاق صار في أمتاره الأخيرة، وسيولد للجمهورية رئيس خلال الأسابيع القليلة المقبلة.
خلال الأيام الأخيرة، تحرّكت خطوط الاتّصالات، لا سيما تلك العابرة للخلافات والاختلافات في وجهات النظر. ويرجّح أن تشهد المرحلة المقبلة تكثيفاً للمشاورات بعد أن يكون كلّ فريق قد استثمر أوراقه لتحسين شروطه، قبل الجلوس إلى طاولة التصفيات النهائية.
يتصرّف الكلّ على قاعدة أنّ الزلزال الحاصل في المنطقة، الذي لم يعفِ لبنان من هزّاته القويّة، سيترك بصماته على الاستحقاق. لكنّ لكلّ فريق وحدة قياسه. الثنائي الشيعي يسعى إلى إضعاف هذا الانقلاب “رئاسيّاً” وهضم تبعاته بتمرير الاستحقاق بـ”التي هي أحسن”، بمعنى الاتّفاق على اسم مقبول من الجميع. فيما المعارضة، وتحديداً “القوات”، مقتنعة أنّ القواعد التي كانت تسري في السابق قد انتهت صلاحيّتها، ولا بدّ من مقاربة جديدة انقلابية تبدأ بالرئاسة ولا تنتهي مع تشكيل أولى حكومات العهد الجديد. وهنا لا تزال المسافة الفاصلة بين المقاربتين بعيدة.
تقول المعلومات إنّ الرئيس برّي فتح خطوط تواصله في كلّ الاتّجاهات. في أجندته أكثر من اسم يمكن أن تكون موضع تقاطع محلّي ودولي، والهدف خروج الدخان الأبيض في الموعد المنتظر. عينه على معراب والمختارة ليكون الاتّفاق الرئاسي معهما. صحيح أنّ وليد جنبلاط كان يولي أهمّية بالغة للعنصر المسيحي في التسوية الرئاسية، فوضَعه شرطاً ضروريّاً، لكن يبدو أنّه بات أقرب إلى فرض معراب ممرّاً إلزاميّاً للاتّفاق، تبعاً للظروف المستجدّة.
تضيف المعلومات أنّ الاتصالات الحاصلة، والتي لم تبلغ بعد درجة النضج الكافي لإخراجها للعلن، غير محصورة بالرئاسة. بمعنى أنّ الكلام بين القوى السياسية راح يتناول السلّة المتكاملة التي تبدأ بالرئاسة وتشمل بطبيعة الحال رئيس الحكومة وتركبيتها ومهمتها. وتقول المعلومات أنّ الرئيس بري حريص على أن تكون معراب ركيزة مسيحية في “سيبة” العهد المقبل، ولذا يعمل على ردم الهوة التي لا تزال بينه وبين سمير جعجع.
يرجّح أن تشهد المرحلة المقبلة تكثيفاً للمشاورات بعد أن يكون كلّ فريق قد استثمر أوراقه لتحسين شروطه، قبل الجلوس إلى طاولة التصفيات النهائية
رئاسة وحكومة
تكمن المشكلة، وفق متابعي العلاقة الثنائية، أنّ الرئيس برّي يريد اقتناص رئيس توافقي من قماشة “الوسطيين” لتصير لعبة الأسماء بسيطة، قابلة للمعالجة، خصوصاً أنّ كلّ المطروحين مستعدّون لتنفيذ القرار الدولي 1701، حتى لو كان سليمان فرنجية! وبالتالي لم تعد العقدة في الاسم بحدّ ذاته.
من هنا يشمل النقاش شكل الحكومة الجديدة وتركيبتها. وفي هذا السياق، تردّد أنّ التشاور المتعدّد الأطراف يتناول اسم تمّام سلام، خصوصاً إذا لم ينكسر قرار سعد الحريري تعليق العمل السياسي، وما دام نجيب ميقاتي يقول إنّه غير راغب بالعودة إلى السراي.
أمّا القوّات فاهتمامها يتركّز على التطوّرات الإقليمية، خصوصاً إذا أخذت منحى تصاعدياً أكثر حدّيّة، من خلال توجيه ضربة نوعية لإيران. وترى أنّ الأحداث تجاوزت البحث في رئيس وسطيّ.
من هنا تلويح جعجع بإمكانية ترشّحه، والبحث في كيفية تأجيل الاستحقاق، كما سبق لـ“أساس” أن كشفت. هذا مع العلم أنّ “القوات” لا تزال عاجزة عن إقناع الكثير من النوّاب – الأصدقاء بمنطقها، ويفضّل هؤلاء الذهاب إلى خيارات رئاسية توافقية، وعدم الرهان على أيّ متغيّرات جديدة.
تقول المعلومات إنّ الرئيس برّي فتح خطوط تواصله في كلّ الاتّجاهات. في أجندته أكثر من اسم يمكن أن تكون موضع تقاطع محلّي ودولي
مع ذلك، تقول المعلومات إنّ الأيّام القليلة المقبلة ستبلور الصورة، خصوصاً إذا نجحت الاتّصالات بين برّي و”القوات” في أن تفتح نافذة تفاهمية بين الفريقين قد تترجم بزيارة يقوم بها جعجع لعين التينة لوضع اللمسات الأخيرة على الاتّفاق.
السّيناريوهات المحتملة
وفق المتابعين، فإنّ السيناريوهات المحتملة للاستحقاق تُختصر بالآتي:
- تحمل التطوّرات الإقليمية مزيداً من الاهتزازات، وهو ما يعطي القوات دفعاً جديداً باتّجاه العمل على تأجيل الانتخابات.
- الذهاب إلى جلسة التاسع من كانون الثاني على قاعدة توافقية، حيث يبدو أنّ العماد جوزف عون عاد ليرأس هذه القائمة في ظلّ إصرار أميركي عليه. وفي حال تمسّك الثنائي الشيعي برفضه، قد ترتفع حظوظ بقيّة أعضاء اللائحة التوافقية، وهم سمير عسّاف، زياد بارود (يؤخذ عليه أنّه قريب من جبران باسيل)، وناصيف حتّي، المقبولون فرنسيّاً.. هذا مع العلم أنّ مرشحيّ الرئيس بري المفضّلين، هما جورج خوري المدعوم من الفاتيكان، والياس البيسري.
- الذهاب إلى جلسة التاسع من كانون الثاني على قاعدة فتح صندوق “باندورا”، وليفُز صاحب الحظّ الأوفر، خصوصاً أنّ برّي لم يعد متمسّكاً بشرط حصول الرئيس على 86 صوتاً، وقد يكتفي بالـ65 صوتاً لانتخابه. وقد تتوزّع الأصوات بين أكثر من مرشّح، ويصعب انتخاب رئيس، فيُصار حتماً إلى التأجيل.
إقرأ أيضاً: برّي والرّئاسة: Now or Never
لمتابعة الكاتب على X: