الزلزال السوري: إيران وقعت في”خيوط العنكبوت”

مدة القراءة 8 د

على مدى أربعة عقود، يمكن القول إنّ النظام السوري، بداية في ظلّ قيادة المؤسّس حافظ الأسد، لعب دوراً محورياً في تحالفات إيران الثورة الإسلامية، خاصة بعد اندلاع الحرب العراقية ضدّه في مطلع ثمانينيّات القرن الماضي. فالأسد الأب استغلّ الحاجة الإيرانية إلى السلاح مع بداية الحصار الأميركي للنظام الجديد من جهة، وحاجته إلى حليف عربي من جهة أخرى، خاصة أنّه وجد نفسه في مواجهة تضامن عربي موحّد إلى جانب النظام العراقي ورئيسه صدّام حسين، وهو ما جعل دمشق بمنزلة الخرق في وحدة الصفّ العربي.

منذ البداية، وعلى الرغم من حجم التحدّيات التي كان يواجهها النظام الإيراني، وافق على لعبة الأسد التي اتّقنها مع جميع الأطراف العربية والدولية، بالحصول على دعم ومساعدات مالية واقتصادية نفطية، بعضها مجّاني وبعضها الآخر بأسعار مخفّضة أو بضائع إيرانية، مقابل توفير ما تحتاج إليه طهران من سلاح وصواريخ ومعدّات، بالإضافة إلى موقف سياسي مهمّته تعطيل مفاعيل موقف أو توجّه أو إجماع عربي أو إقليمي.

قد يكون من الصعب إحصاء حجم الأموال والدعم الذي قدّمته طهران لدمشق ونظام الأسد خلال هذه العقود، لغياب الشفافية، نتيجة دخول هذه العملية ضمن الأسرار القومية والاستراتيجية. إلّا أنّ عملية حسابية بسيطة، خاصة لكميّات النفط التي حصل عليها، تجعل من السهل القول إنّ مليارات من الدولارات قد صرفتها طهران من أجل شراء هذه العلاقة والدعم.

على الرغم من حجم التحدّيات التي كان يواجهها النظام الإيراني، وافق على لعبة الأسد التي اتّقنها مع جميع الأطراف العربية والدولية

لكنّ هذه العلاقة لم تكن صاحبة أيّ تأثير على مواقف أو سياسات النظام السوري، بل كانت مجرّد رقم في لعبة الأسد يوظّفها لابتزاز الآخرين وتحسين شروطه السياسية. أي كانت سوريا حاجة بالنسبة لطهران، أكثر من كون طهران حاجة لدمشق والأسد.

من أساليب الابتزاز التي مارسها الأسد الأب مع النظام الإيراني، يأتي قرار الأسد بإقفال خطّ أنابيب النفط العراقي الذي يبدأ من حقول كركوك ويمرّ عبر الأراضي السورية وينتهي في مصفاة طرابلس اللبنانية، وبالتالي حرمان العراق من عائدات مليون برميل يومياً وإسقاطها من مجهوده الحربي. وحصل مقابله على جزء من النفط الإيراني المجّاني ومساعدات اقتصادية أخرى.

هو الأسلوب نفسه الذي اعتمده أيضاً في حرب تحرير الكويت، عندما رفض الطلب العراقي بإعادة تشغيل خطّ الأنابيب هذا، وعمل على ابتزاز التحالف العربي مقابل بدل ماليّ يوميّ يقدّر بملايين الدولارات.

من الأب إلى الابن

إلّا أنّ المشهد بعد وفاة الأسد الأب انقلب، فبدل أن تكون طهران حديقة خلفيّة للنظام السوري، تحوّلت سوريا مع بشار الابن إلى حديقة خلفيّة لطهران. وقد بدأ هذا التحوّل مع الاستعدادات لانتقال السلطة من الأب إلى الابن الذي دخل قصر تشرين الرئاسي تحت حراب وحراسة عناصر من حرس الثورة الإسلامية الإيرانية و”الحزب”.

إذ عملت طهران من خلال قاسم سليماني على توفير انتقال آمن للسلطة وسهّلت تسلّم بشار للرئاسة، وساعدته على إبعاد كلّ مصادر الخطر والتهديد التي كان يواجهها أو يخاف منها والتخلّص منها.

قد يكون من الصعب إحصاء حجم الأموال والدعم الذي قدّمته طهران لدمشق ونظام الأسد خلال هذه العقود، لغياب الشفافية

على الرغم من انقلاب المشهد، لم يتوقّف الدعم الإيراني للنظام السوري، لا بل تحوّل إلى ضرورة من أجل مساعدته على مواجهة تحدّيات المرحلة الانتقالية، ثمّ السعي إلى شراء أو ضمان موقفه وتحالفه مع طهران. وبالتالي لم يحصل أيّ تعديل على عملية وسياسة الدعم الماليّ والاقتصادي الذي كان سائداً في عهد الأب. بل تطوّر إلى مستويات أخرى، هذه المرّة إلى مجال التسليح، حيث عمد النظام في طهران إلى عقد صفقات شراء أسلحة من مصادر دولية لحساب النظام السوري، إضافة إلى تزويده ببعض المصانع العسكرية الأخرى، خاصة في المجال الصاروخي، حين زوّدته طهران بمصنع لصواريخ سكود الروسية التي خضع تصنيعها إيرانيّاً لهندسة عكسية، بعدما كان الأسد الأب يستغلّ حاجة طهران إلى مثل هذه الصواريخ خلال الحرب مع العراق، وكان يشتريها لها من الأسواق الدولية أو يقدّمها من مخازنه العسكرية.

مأزق اغتيال الحريري

على الرغم من هذا الدعم المفتوح على جميع المستويات الذي قدّمته طهران لنظام الأسد الابن، لم تكن تشعر بالاطمئنان إلى صلابة موقفه إلى جانبها. لكنّها حاولت التعاون معه والعمل على إخراجه من العديد من المآزق التي ورّط نفسه بها، خاصة عندما واجه تهديداً دولياً طالبه بالانسحاب من لبنان بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الشهيد رفيق الحريري.

حاولت طهران إقناعه بمحاولة امتصاص هذه الموجة من خلال تطبيق ما جاء باتفاق الطائف في المرحلة الأولى، أي بالانسحاب إلى شرق لبنان وسهل البقاع، بانتظار ما قد يحصل من تسويات، إلّا أنّها فوجئت بقرار الانسحاب التامّ من لبنان، الأمر الذي كشف ظهر حليفها اللبناني قبل أن يتمّ التخطيط لاستيعاب آثار هذا الانسحاب.

عملت طهران من خلال قاسم سليماني على توفير انتقال آمن للسلطة وسهّلت تسلّم بشار للرئاسة، وساعدته على إبعاد كلّ مصادر الخطر والتهديد التي كان يواجهها أو يخاف منها والتخلّص منها

قبل الانسحاب من لبنان وبعده، واجهت طهران معضلة التعامل مع الأسد الابن وسياساته على الساحة العراقية، خاصة ما يتعلّق بالدعم الذي كان يقدّمه للجماعات الإرهابية، ولا سيما تنظيم القاعدة، ونقلها إلى العراق للقيام بعمليات تفجير. وقد اضطرّ قاسم سليماني إلى رفع لهجته مع الأسد عندما طلب منه وقف هذا التعاون، إلّا أنّ الأسد سوّغ هذه السياسة بأنّها عملية استباقية تهدف إلى إلهاء الإدارة الأميركية وصرفها عن التفكير بمهاجمة سوريا. وهي سياسة لم يراعِ فيها حجم الأضرار التي ألحقها بالحكومة العراقية آنذاك بقيادة نوري المالكي حليفه، الأمر الذي دفع المالكي لاتّهام الأسد وسوريا بالوقوف وراء عمليات التفجير في العراق ودعم الإرهابيين.

تدخّل إيران في سوريا

مع بداية الانتفاضة الشعبية في آذار 2011، كانت طهران وحلفاؤها يراقبون ما يحصل من أحداث، إلّا أنّ مستوى العنف الذي مارسه النظام في قمع الاحتجاجات والتظاهرات، وتساقط المحافظات في يد الفصائل المسلّحة التي انتفضت حينها تحت مسمّى الجيش الحرّ، دفع طهران إلى حسم خياراتها بضرورة التدخّل للدفاع عن النظام بعدما وصل المسلّحون إلى أجزاء كثيرة من دمشق واقتربوا من القصر الرئاسي.

هذا التدخّل العسكري المباشر لطهران بداية تحت مسمّى “مستشارين عسكريين” من قوّة القدس في حرس الثورة، ثمّ لاحقاً بإرسال قوّات مقاتلة من وحدة العمليات الخاصة “القبّعات الخضر”، بالإضافة إلى دخول “الحزب” المباشر إلى جانب فصائل عراقية وأفغانية وباكستانية، استطاع أن يقلب المشهد ويعيد تثبيت النظام وتدعيمه وتمكينه من استعادة السيطرة على معظم الأراضي والمناطق التي خسرها، خاصة أنّ هذا التحوّل العسكري تحقّق جرّاء الغطاء الجوّي الروسيّ لهذه المعارك دعماً للنظام في دمشق. وبالإضافة إلى الدعم العسكري والبشريّ الذي قدّمته طهران مباشرة أو عبر حلفائها، خاصة اللبنانيين، وما أدّى إليه من خسائر كبيرة في صفوف عناصرها المدرّبين والنخبويين، فإنّ الأكلاف المالية التي دفعتها طهران على هذا التدخّل تجاوزت في أقلّ التقديرات نحو 76 مليار دولار، من أسلحة وعتاد وتدريب وشراء ذمم داخل الجيش السوري للحفاظ على ولائهم للنظام أو صفقات مع جماعات مسلّحة غير أساسية.

قبل الانسحاب من لبنان وبعده، واجهت طهران معضلة التعامل مع الأسد الابن وسياساته على الساحة العراقية

ديون إيران على سوريا

إلى جانب هذه الأكلاف، فإنّ دعماً رسمياً وعبر القنوات الحكومية كانت تقدّمه طهران لنظام الأسد، من خلال خطوط الاعتماد السنوي الذي لم ينخفض عن مبلغ مليار دولار يجدّد كلّ سنة وفي بعض الأحيان مرّتين، وهو ما دفع رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية الأسبق في البرلمان حشمت الله فلاحت بيشه إلى مطالبة النظام السوري خلال زيارة له لدمشق بدفع ديونه المتراكمة لإيران، ثمّ العودة إلى الحديث بعد سقوط مدينة حلب عن أنّ حجم هذه الديون يبلغ نحو 30 مليار دولار. وبالأمس وبعد استيلاء القوى المسلّحة على دمشق وسقوط النظام وهروب الأسد، عاد فلاحت بيشه للحديث عن هذه الديون، وأنّ على سوريا دفعها وإن تغيّر النظام.

تجلس بعض الأوساط الإيرانية من الموالين للنظام أو من القوى الإصلاحية، هذه الأيام على أطلال نظام الأسد، وتتحدّث عن حجم الخسائر التي تكبّدتها طهران جرّاء دعمها لهذا النظام الذي رفض أن يقدّم أيّ فرصة لها في إعادة الإعمار، في وقت لم يخفِ الأسد رغبته في تسليم هذه العملية إلى تركيا والدول العربية، وحتى إنّه رفض اعتبار مساهمة إيران فيها جزءاً من إعادة الديون المترتّبة عليه أو تعويضاً عن الدعم الذي قدّمته بشرياً وسياسياً ومادّياً خلال سنوات الحرب التي عاشها.

إقرأ أيضاً: من رباعيّة سليماني إلى الهروب الكبير

عاد فلاحت بيشه للضرب من جديد، وهذه المرّة مخاطباً قيادة النظام بالقول: “من الآن وصاعداً ليفرح الإيرانيون، فلن يكون لأيّ أحد بعد الآن الحقّ في الترف بدولارات الإيرانيين من أجل الحفاظ على خيوط العنكبوت”، خاصة أنّ الأسد هرب من سوريا من دون أن يُعرف إلى أين اتّجه وبعدما أطفأ رادارات الطائرة التي هرب فيها.

مواضيع ذات صلة

واشنطن تعيد اكتشاف سوريا… ترامب أيضاً

لا يرى المفكّر الروسي ألكسندر دوغين ما جرى في سوريا إلّا من باب مؤامرة معقّدة الحلقات في العالم، هدفها الأوّل إضعاف روسيا ونصب فخاخ للرئيس…

لا تظلموا السّوريّين.. لا تنغّصوا فرحتهم

خمس آيات قرآنية أخبر الله فيها أنّه خلق السماوات والأرض في ستّة أيام، فقال في سورة هود بالآية السابعة: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِى…

دمشق: الانفتاح العربيّ على إيقاع أميركا وتركيا

أيّ مسار ستشهده عودة سوريا إلى “الحاضنة العربية”، التي استهزأ بها بشار الأسد خلال القمّة العربية في جدّة عام 2023؟ حينها قال للقادة العرب، الذين…

من رباعيّة سليماني إلى الهروب الكبير

عام 2017 وصل قاسم سليماني إلى الحدود السورية العراقية قادماً من البادية على رأس لواء “فاطميون”، ثمّ أدّى الصلاة إماماً في منطقة التنف. وصار مذّاك…