ما دمنا تبنّينا منذ البداية حراك السوريين في الدفاع عن حقوقهم وكرامتهم التي أراد نظام الأسد سلبها منهم، فمن حقّنا أن نفرح معهم ونقول رأينا في المطلوب والمتوقّع عند بناء سوريا الجديدة. ولهذا يراقب المجتمع الدولي أداء السلطة الجديدة، لتطبيق ما قيل نظريّاً، وترجمته عمليّاً على الأرض، بدعم شعبي وسياسي واسع.
يقول أبو محمد الجولاني لـ”مجموعة الأزمات الدولية” إنّه ستتمّ إدارة حلب من قبل هيئة انتقالية، مشيراً إلى أنّ “هيئة تحرير الشام” تفكّر في حلّ نفسها لتمكين ترسيخ البنى المدنية والعسكرية في سوريا. لكنّنا لا نعرف ما إذا كان الجولاني سيبقى على ما قال بعد تحرير دمشق وإزاحة بشار الأسد.
لن تكون هناك أيّ مفاجأة إذا ما قرّرت “هيئة تحرير الشام” حلّ نفسها أو البحث عن اسم جديد يواكبه الكثير من التغيير في بنية وفكر وطروحات الهيئة، كما ألمح الجولاني نفسه قبل أيام.
جاء الردّ السريع والمبكر عبر مسؤول أميركي كبير في البيت الأبيض قال إنّ “هيئة تحرير الشام” قامت بأشياء صحيحة، ولذلك “نحن ندرس احتمال إزالة اسمها من قائمة الإرهاب للتعامل معها بشكل أعمق”.
ترحيب دوليّ مبدئيّ
هناك ترحيب على مستوى المجتمع الدولي بالخطوات الإيجابية التي اتّخذتها قوى فصائل المعارضة السورية في ما يتعلّق بحماية المدنيين، واستمرارية عمل مؤسّسات الدولة، وتقديم الخدمات العامّة خلال المرحلة الانتقالية التي تعيشها البلاد.
قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إنّ الشعب السوري ليس في وضع يسمح له بإعادة البناء بمفرده، وإنّ الجهات الفاعلة الدولية والقوى الإقليمية يجب أن تتصرّف بحكمة وأن تحافظ على سلامة الأراضي السورية.
ما يقال حتى الآن يعني نجاح قوى المعارضة (سابقاً) في امتحانها الأوّل على مستوى الداخل، ويعكس استعداد الكثير من العواصم والمنظّمات الدولية للعمل مع قيادات هذه المرحلة، تمهيداً لوصول السلطة السياسية الجديدة التي ستقود سوريا.
تنظيم أطر العلاقة مع حلفاء الأسد، إيران وروسيا، في المرحلة المقبلة مهمّ طبعاً، لكنّ التطلّع صوب إسرائيل ينبغي أن لا يقلّ أهمّية عن ذلك
الكرة باتت في ملعب السّوريّين
الكرة الآن في ملعب السوريين، لكنّ الجميع يدرك أنّ الشعب السوري ليس في وضع يسمح له بإعادة البناء بمفرده، وأنّ الجهات الفاعلة الدولية والقوى الإقليمية يجب أن تتصرف بحكمة وأن تحافظ على سلامة الأراضي السورية، كما يقول فيدان.
إذا كان الفخّ الأميركي – الإسرائيلي الذي وقعت فيه تركيا، كما يقول علي أكبر ولايتي مستشار المرشد، هو ما جرى في الخامس من الشهر الحالي، فليتنا وقعنا فيه قبل عقد. رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني مشكور أيضاً على عدم وقوفه مكتوف الأيدي أمام الأحداث الخطيرة، فهو أصغى لتحذيرات مقتدى الصدر من التدخّل في تطوّرات المشهد السوري بطلب إيراني.
مع هروب بشار الأسد إلى روسيا، بدأت حقبة سياسية جديدة في تاريخ سوريا تعلن نهاية حكم حزب البعث الذي تفرّد بالسلطة على مدى 6 عقود كاملة، وتفتح الطريق أمام فرصة لا تعوّض للسوريين لإعادة بناء دولتهم واسترداد ما سلبه نظام دموي قمعي منهم.
التحدّيات كبيرة، وهناك الكثير ممّا ينبغي فعله. الانتصار على الأسد شيء، والخروج من مخلّفات نظامه وتركته السياسية والدستورية والاجتماعية والاقتصادية شيء آخر.
ضرورة ترتيب الأولويّات
سنوات صعبة تنتظر السوريين في الداخل والخارج، وهم يستعدّون لإعادة بناء دولتهم بصبر وحكمة وواقعية. ترتيب الأولويّات التي تنتظر للانطلاق ورسم خارطة الطريق في التعامل مع الملفّات مهمّان هنا. فمن الذي سيتولّى المهمّة؟ وكيف سيتمّ اختياره؟ وما هي القدرات والمؤهّلات التي يملكها والخبرات التي ستمكّنه من ذلك؟
أمام من سيتولّى حكم سوريا معضلات جمّة على المستويات الداخلية والخارجية. فمن الوجود الروسيّ في قواعد عسكرية متوسّطية، إلى النفوذ الإيراني الاقتصادي، ثمّ الوجود العسكري التركي والأميركي، إلى جانب مسألة “قوات سوريا الديمقراطية” ومشروعها السياسي في شرق الفرات.
من المعروف أنّ قوى الثورة السورية في الداخل والخارج قد أعدّت لهذه المرحلة الانتقالية
امتحان الخطط والبرامج والتّعديلات الدّستوريّة
مهمّة إزالة رواسب النظام السابق لن تكون سهلة، ولن تكفي لوحدها. لكنّ ما ينتظر الحكم الجديد وما سيميّز الثورة هو امتحان الخطط والبرامج والمشاريع والتعديلات السياسية والدستورية والاجتماعية التي ينتظرها الشعب السوري.
من المعروف أنّ قوى الثورة السورية في الداخل والخارج قد أعدّت لهذه المرحلة الانتقالية، في إطار خطط وبرامج ومشاريع تحدّثت عنها طوال سنوات. المنتظر الآن تطبيق ما قيل نظريّاً، وترجمته عمليّاً على الأرض بدعم شعبي وسياسي واسع:
– تسريع انتقال مؤسّسات الخارج السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإعلامية المنتشرة في المنطقة والعواصم الغربية إلى الداخل، للتعامل المباشر مع الواقع القائم على الأرض، في طليعة متطلّبات الانطلاقة الجديدة. وهذا ما سيحدث.
– من أولويّات السوريين أيضاً، تسريع تقليص الخلافات وتسهيل التقارب في طروحات ومواقف القوى السورية على طاولة وطنية جامعة.
– الاستفادة من الطاولة الإقليمية الجديدة حول سوريا التي تتحاور على مستوى الأجهزة الاستخبارية والدبلوماسية وقنوات التواصل بين أطراف فاعلة، أحياناً عن قرب وأحياناً أخرى “أونلاين” أو عن بُعد.
– الشروع في البحث عن برامج وخطط لرفع العقوبات عن سوريا، وتوفير التمويل الضروري في المرحلة الانتقالية، ثمّ التعامل مع ما تنتظره سوريا من دعم جهود إعادة الإعمار في إطار خطط مبرمجة تطرح الأولويّات الواجب التعامل معها.
– البحث عن فرص اجتماع الهيئات والقوى والمنصّات السورية الناشطة في الداخل والخارج حول طاولة واحدة، من الأمور التي تحتاج إليها البلاد بأسرع ما يكون.
– توحيد الجغرافيا السورية وبسط نفوذ الدولة على كامل تراب البلاد، ينبغي أن يكونا من أولويّات المرحلة الانتقالية. لا يمكن الانطلاق في معركة البناء الحقيقي قبل حسم مسألة هيمنة الدولة على كلّ أراضي سوريا.
– تعريف هويّة الإرهابي والانفصالي وطريقة التعامل معه، من القضايا التي تنتظر السلطة السياسية الجديدة.
سنوات صعبة تنتظر السوريين في الداخل والخارج، وهم يستعدّون لإعادة بناء دولتهم بصبر وحكمة وواقعية
لتشكيل حكومة ائتلافيّة
– تسريع تعريف المواطنة، وتفعيل خطوات وحدة الصفّ بين جميع أطياف الفسيفساء السورية، الغنيّة بتنوّعها العرقي واللغوي والديني. تبنّي شعار أنّه لا يمكن لأيّ طرف أن يحقّق الاستقرار بمعزل عن الآخرين، من المسائل الواجب على السوري أن يعرفها وهو يريدها.
– تشكيل حكومة ائتلافية واسعة تشارك فيها كلّ القوى الثورية والمجتمعية الرئيسية، بما يضمن تمثيل المكوّنات السورية، وذلك في إطار استراتيجية فاعلة للمصالحة الوطنية، قائمة على القبول والاحترام. وهي في مقدَّم المتطلّبات أيضاً.
– وضع دستور سوريّ جديد تشارك المؤسّسات الحقوقية والسياسية والاجتماعية في تقديم المقترحات والتوصيات حوله، ويأخذ بعين الاعتبار بنية سوريا وحاجتها إلى إرساء نظام ديمقراطي عصري (يرسي) يكرّس قواعد المواطنة والعدالة والمساواة، ويحول دون انزلاق البلاد نحو أزمة جديدة مكلفة، ويتمّ إقراره بوسائل ديمقراطية بعد إشراك أوسع شريحة في رسم معالم هذا الدستور، الذي سيكون ميثاق بناء سوريا الغد. وطبعاً من دون إغفال حقيقة ضرورة الابتعاد عن التحاصص والتوظيف السياسي أو الطائفي، كي لا يتحوّل الدستور إلى عقبة في طريق السوريين ويكبّل أيديهم، كما هو حاصل اليوم في لبنان والعراق.
– إعادة بناء الجيش والأجهزة الأمنية لتكون تحت الرقابة المدنية، وليس العكس، وتطهيرها من ذهنية النظام السابق، وإعادة تأهيل عناصرها التي قطعت مع دورها الوطني وتلوّثت سمعتها بسبب ممارسات نظام الأسد، وضرورة مطاردة فلول النظام ومحاكمتهم على الجرائم التي ارتكبوها لعقود.
لإعادة اللّاجئين إلى ديارهم
– إعادة ملايين اللاجئين والنازحين إلى ديارهم، وتوفير متطلّباتهم الحياتية والاجتماعية، وإعادة دمجهم في خطط بناء سوريا بأسرع ما يكون. وهي من أصعب التحدّيات.
مع هروب بشار الأسد إلى روسيا، بدأت حقبة سياسية جديدة في تاريخ سوريا تعلن نهاية حكم حزب البعث
– وضع برامج وخطط الإصلاح الاقتصادي والماليّ، وتسهيل وصول الاستثمارات والتمويل والمساعدات، وعدم تبديدها، واستخدامها باتّجاه بناء الاقتصاد الوطني الحديث وتنويع العقود والاتفاقيات التجارية والمالية البعيدة المدى، وكسب ثقة المؤسّسات المالية والمصرفية العالمية.
– تفعيل دبلوماسية مغايرة تشرف على تطبيق ما تقرّه السلطة السياسية في الحكم، وما تراه مناسباً في رسم معالم وأسس وثوابت السياسة الخارجية الجديدة لسوريا، التي تستدعي الكثير من المرونة والواقعية والعملانيّة وضرورة بناء تحالفات وعلاقات شراكة متوازنة. وتعطي الأولويّات لخصوصيّات سوريا ولانتمائها وجغرافيّتها، ولمن وقف بجانب الثورة، لكن ليس على حساب متطلّبات واحتياجات إعادة بناء البلاد، وكسب دعم المجتمع الدولي في هذه الظروف الصعبة التي تستدعي تغيير وتحسين صورة سوريا.
من حقّنا أن نفرح معهم ونقول رأينا في المطلوب والمتوقّع عند بناء سوريا الجديدة. ولهذا يراقب المجتمع الدولي أداء السلطة الجديدة
تواصل إسرائيل تدمير البنى التحتية العسكرية لسوريا على الرغم من رحيل النظام وعدم تشكيله أيّ خطر عليها بعد الآن. والسبب أنّها لا تريد لسوريا أن تخرج بسرعة وسهولة من محنتها في المرحلة الانتقالية، وتريدها أن توقّع اتفاقية سلام معها بأسرع ما يكون لتضمن أمنها الحدوديّ المشترك.
تنظيم أطر العلاقة مع حلفاء الأسد، إيران وروسيا، في المرحلة المقبلة مهمّ طبعاً، لكنّ التطلّع صوب إسرائيل ينبغي أن لا يقلّ أهمّية عن ذلك، بهدف قطع الطريق على محاولات اقتطاع المزيد من الأراضي السورية أو دخولها لإنشاء حزام أمنيّ جديد بعد الجزء المحتلّ من أراضي الجولان.
إقرأ أيضاً: أولويّات تركيا لسوريا الجديدة: العودة للحضن العربي
الالتزام بتطبيق قواعد العدالة والشفافية والمساواة واحترام حقوق المواطنين في المشاركة الحقيقية في البناء، هو مفتاح التخلّص من رواسب الأسد والانتقال بالبلاد إلى مرحلة الاستقرار والازدهار.
لمتابعة الكاتب على X: