“ولي بين الضلوع دم ولحم هما الواهي الذي ثكل الشبابا
ولو خلقت قلوب من حديد لما حملت كما حمل العذابا
وكلّ بساط عيش سوف يطوى وإن طال الزمان به وطابا
ولا ينبيك عن خلق الليالي كمن فقد الأحبّة والصحابا”
(سلوا قلبي – أحمد شوقي)
قد يكون من أصعب الأمور لمن يحيا في أسطورة أن يخرج منها بسلامة عقل، وللحفاظ على هذه السلامة فقد يلجأ إلى استدامة تلك الأسطورة. فمن يعتبر نفسه وريث عنترة، فلن يقبل أبداً أن يقتنع بأنّ الروايات المنسوجة على اسمه مجرّد روايات.
لكن من منّا لا يحيا في أسطورة شخصية أو جماعية قد تكون الحائط المتين الذي نستند إليه في لحظات الأزمات التي لا حلّ لها والعِقد التي تحتاج إلى القطع لا الفكّ؟ فقد تمنحنا الصبر والتجلّد إلى حين تمرّ الأزمة فتترك آثارها على ما يصبح ماضينا. والمهمّ في الماضي هو ليس كونه أمراً مضى، فهو جزء لا يتجزّأ من الحاضر والمستقبل، بحيث تنطبع تصرّفاتنا وأفكارنا بهذه التجربة، سواء سلباً أو إيجاباً.
هنا يؤكّد الفيلسوف مارتن هيدغر أنّ تحقيق الذات الجوهرية يستند إلى التفوّق على الاستسلام للسائد الذي يأسر الوجود في البديهي، ثمّ اتّخاذ الخيارات المستندة إلى وجودنا في العالم.
أهميّة الأساطير الإغريقية القديمة، المنسوبة إلى هوميروس وهذيود، هي العِبَر المرتبطة بعمق الذات الإنسانية، من أسطورة إيكارد الذي طار بأجنحة وسقط على وجهه، ونرسيس المزهوّ بجماله الذي تحوّل إلى زهرة جامدة أمام البحيرة، إلى أخيل البطل الصنديد الذي قتلته نبلة مسمومة في عقبه… فهمُ تلك الأساطير بمعانيها وعِبَرها هو أساس ما أصبح عصر العقل في الفلسفة اليونانية، عندما فُصل العقل عن الأسطورة، وصارت مجرّد روايات موروثة من الأجداد.
الخسائر الفادحة لم تتمكّن أبداً حرب المشاغلة التي أطلقها “الحزب”، حتى في الخيال والأوهام، من التخفيف منها
في الوقت الذي يترقّب فيه الناس ما يقرّره مزاج الصهاينة، بالاستناد إلى خبث بنيامين نتنياهو وعنصرية وزير المالية بتسلئيل سموتريتش وتخلّف وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتامار بن غفير، ثمّ عودة آموس هوكستين بالخبر اليقين، ليس من السهل لمن يحيا في أسطورة تحاصر كلّ نواحي حياته أن يفكّر خارجها، أو أن يستنتج العبَر من دون الاستناد إليها.
لكن في ساعة صفاء قد يتمكّن البعض من التفكير وطرح الأسئلة المناسبة للتوصّل إلى مفهوم خارج إطار الأسطورة البديهية السائدة بين الجموع المأخوذة بكونها أشرف الناس وأفضل الناس بأنّ مرسالاً من عالم الغيب سيأتي لقلب العسر يسراً. لكن علينا أن نتفهّم أنّ من الصعوبة بمكان إقناع من فقد فلذة كبده وبيته وحيّه وقريته التي تصوّرها قلعة صامدة، تعلو فوق الغيوم، مثل قلعة “ألموت”، حصن الحشّاشين، بأنّ كلّ ذلك ذهب سدى، وأنّ عليه أن يعود على الرغم من تضحياته ليكون أحد الناس وأنّ شرفه يعادل شرف كلّ الناس.
كم من حروب وموت ودمار استدامت فقط تحت شعار “حتى لا تذهب كلّ التضحيات سدى” أو “إنّهم يألمون مثلما تألمون” أو “ما النصر إلّا صبر ساعة واحدة”؟! ولا يظنّنّ أحد أنّ ألمانيا لم تستند إلى المقولات ذاتها لتستمرّ المقاومة النازية لزحف الجيش الأحمر من الشرق، وقوات الحلفاء من الغرب، مع أنّ المنطق يقول إنّ ألمانيا خسرت الحرب قبل سنتين من الهزيمة يوم فشلت حملة روسيا.
لكن لا أحد سيعتبر من ذلك، للسبب ذاته الذي جعل من النازي يعتقد، بصدق لا مثيل له، أنّه أفضل الناس وأشرفهم وأنقاهم عرقاً، وأنّ الآخر سيصرخ ألماً لكونه جباناً ورعديداً ولا يحتمل الصبر على الوجع والخسائر.
من هنا، على من بقي من ذوي الألباب في بلدنا، وفي لحظة سكينة نداء الوجدان، التفكير في الأسئلة التالية حتى نستخرج أنفسنا من حلقة الدمار والموت والاستخدام المفرغة:
على من بقي من ذوي الألباب في بلدنا، وفي لحظة سكينة نداء الوجدان، التفكير في الأسئلة التالية حتى نستخرج أنفسنا من حلقة الدمار والموت والاستخدام المفرغة
1- هل من المفيد التعويل على نقاط ضعف العدوّ كحقيقة ثابتة لا تتبدّل مع الزمن للمغامرة في استدراجه للحرب؟
2- هل صحيح أنّ المنافسة في الميدان تستند فقط إلى قدرة المتواجهين على تحمّل الخسائر؟
3- هل العدوّ يستدرجنا دائماً إلى الميدان بناءً على شوقنا لرفع رايات النصر ولو فوق الركام والأشلاء؟
4- ما هي حسابات الربح والخسارة في عملية طوفان الأقصى بعد سنة من انطلاقها؟
5- هل حرب المشاغلة التي انطلقت غداة طوفان الأقصى خفّفت في الواقع من خسائر الفلسطينيين؟
6- هل توازن الرعب بالصواريخ والأنفاق وحميّة المجاهدين تمكّن من تحقيق الأمن والسلام لأهل الجنوب أو للبنان؟
7- هل التعويل على وحدة الساحات ومئات آلاف المجاهدين المسلّحين بإيمانهم بمجد ولاية الفقيه يمكّن من ردع العدوّ عن الاستمرار في المذبحة والتدمير؟
8- هل هناك أيّ فائدة من استدامة حال اللادولة بالاستناد إلى الدويلة واستمرار الحال الثورية؟
بعيداً عن ضوضاء البديهيّات
ذوو الألباب قادرون على استنتاج ما هو منطقي عند لجوئهم إلى صوت الوجدان وصمّ آذانهم أمام ضوضاء البديهيّات. الواضح هو أنّ العدوّ بشر مثلنا، لكنّه مدرك بوعي كامل لنقاط ضعفه، وهو في حال علاج مستدام لها، لكنّه أيضاً يعتبر نفسه في حال الدفاع عن الوجود.
من هنا يبدو أنّه تحمّل أكثر ممّا تصورنّا خسائر في القتلى والاقتصاد، ويكفي فهم أنّ هذا العدوّ يمثّل امتداداً للولايات المتحدة الأميركية لنفهم قدرته على الصمود. لكنّ المؤكّد منذ أيّام بن غوريون هو أنّ سياسة استدراج العرب إلى الميدان بناءً على حميّتهم واستعدادهم للتضحية على الرغم من اختلال الموازين، ما زالت قائمةً حتى اليوم في سبيل تحقيق الأهداف الخبيثة للصهيونية.
يكفي هنا القيام بحساب بسيط للخسائر بين العدوّ والمجاهدين، مع إعجابي ببطولة اللحظات الأخيرة للسنوار، فإنّ إصابة ما يقارب مئتي ألف من الجرحى والمعاقين وسقوط عدد كبير من الشهداء وتدمير البيوت والتهجير المتكرّر لا يمكن مقارنتها بالصدمات النفسية التي يعاني منها الطرف الآخر!
أمّا عن توازن الرعب فحدّث ولا حرج. إن كان هدفه الردع، فهذا الردع سقط بحكم الدمار والاجتياح الحاصل في الضاحية والبقاع والجنوب
هذه الخسائر الفادحة لم تتمكّن أبداً حرب المشاغلة التي أطلقها “الحزب”، حتى في الخيال والأوهام، من التخفيف منها، ولن يقنع أيٌّ من ذوي الألباب بأنّها كانت حرباً استباقية لنيّة العدوّ الاعتداء لاحقاً. فلو كان الأمر كذلك لما كان من المنطق المبادرة، لكنّ المنطق لا يصلح إلا عند ذوي الألباب.
أمّا عن توازن الرعب فحدّث ولا حرج. إن كان هدفه الردع، فهذا الردع سقط بحكم الدمار والاجتياح الحاصل في الضاحية والبقاع والجنوب، وإن كان في الميدان فقد سقط بعدما غيّر العدوّ تكتيكاته التي أسّست لـ”الحزب” أسطورة 2006 إثر تدمير الدبّابات… بالعودة بعدها إلى المدى الاستراتيجي وسقوط حواجز الحدود لكون ولاية الفقيه ومعسكر الممانعة يمتدّان لآلاف الكيلومترات وعلى مساحات بالملايين، من المتوسط إلى حدود باكستان وصولاً إلى اليمن غير السعيد.
لكنّ الزينبيّين والفاطميّين والحشود لم يتحرّكوا، وإن تحرّكوا لم يصلوا، وبشار الأسد يبحث عن جارٍ يلجأ إليه، وصواريخ الحوثيين انقلبت دماراً على اليمن. وبقي في الميدان حديدان وحيداً، ما عدا زيارات لوزير ورئيس مجلس شورى ومستشار للوليّ تنصح بالمزيد من الصمود حتى تتمّ مناقشة البرنامج النووي.
بالمحصّلة، لم يساعد المعسكر الميمون أيّ طفل على العودة إلى مدرسته ولا شابّ سقط قبل الأوان ولا حمى منزلاً شيّده سكّانه بالعزّة والتعب.
ننتهي إلى السؤال الأهمّ: هل استمرار الحال الثورية وتهميش الدولة أمر مفيد حسب التجربة؟ هل تمكّنت مؤسّسات الدويلة على الرغم من ضخامتها من حماية حياة الناس وأرزاقهم؟ هل الالتزام بدولة موحّدة ممكن دون الالتجاء إلى القبيلة؟
إقرأ أيضاً: لماذا يحذّر إردوغان من المخطّط الإسرائيليّ في سوريا؟
كلّها أسئلة مطروحة علينا جميعاً وبالأخصّ على جمهور ضحّى بفلذات أكباده للمشروع. يستند المسار إلى أجوبته بعد سكوت أزيز الطائرات المقيت. فإمّا يتحوّل الصراع إلى الداخل فيربح العدوّ مرّتين، أو العودة إلى كنف الدولة لتطويرها ودعم وجودها كسلطة موحّدة ذات سلاح شرعيّ واحد، أو ستتعالى الدعوات المستترة إلى الانفصال.
لمتابعة الكاتب على X: