إسرائيل: حروب المدن وتخريب الجيوش

مدة القراءة 5 د

المؤسّسة العسكرية والأمنيّة في إسرائيل، وخصوصاً في أزمنة الحرب، كانت تبدو متماسكة وملتزمة بقرارات المستوى السياسي.

غير أنّ هذين التماسك والالتزام لم يكونا ليخلوا من استثناءات يبادر إليها جنرالات أغرتهم وقائع الميدان المؤاتية لتطوير هجوم من خارج قرار المستوى السياسي. وهذا ما فعله أرييل شارون في حربين كبيرتين في أكتوبر 1973، واجتياح لبنان 1982.

كان المستوى السياسي يتعامل مع النتائج ويستفيد منها، لكنّه كان يحيل الجنرالات إلى المساءلة عبر لجان تتشكّل لهذه الغاية. إلا أنّ العقوبات لم تكن جدّية مثل العقوبة التي وقعت على شارون إثر مذبحة صبرا وشاتيلا، والتي لم تحُل بينه وبين الصعود إلى موقع رئيس الوزراء.

حرب غزة هي أطول الحروب الكبيرة والمكثّفة في تاريخ إسرائيل.. وبمقياس النسبة والتناسب هي الأكثر خسارة.

 

 

تدمير… دون إذن سياسي

نظراً للصعوبات التي لم تكن محسوبة عند اتّخاذ المستوى السياسي لقرار اجتياح غزة، ونظراً لامتداد الحرب إلى مناطق أخرى أملت استدعاء الاحتياط بمئات الآلاف، فإنّ الجيش المفترض أن يكون شديد الانضباط في هذه الحالة ودقيق الالتزام بقرارات المستوى السياسي اعتراه خلل كبير.

إذا لم يكن هذا الخلل واضحاً في أداء الجيش والاستخبارات على الجبهة الشمالية بحكم عدم التوغّل في المدن والقرى المأهولة، إلا أنّ ما يفعله الجيش في قطاع غزة حيث المدن المكتظّة بالناس والمقاومين، يشي بحالة متصاعدة من المخالفات التي تبدو في ظاهرها انضباطية. بينما هي امتداد للأجندات المتصارعة داخل الحياة السياسية والحزبية في إسرائيل.

حرب غزة هي أطول الحروب الكبيرة والمكثّفة في تاريخ إسرائيل.. وبمقياس النسبة والتناسب هي الأكثر خسارة

هنالك منشآت فلسطينية جرى تدميرها دون إذن من المستوى السياسي. وأحياناً دون مراعاة لآليّات اتّخاذ القرار العسكري من مصادره العليا. وهنالك قتل لا لزوم له وبالآلاف، قام به ضبّاط متوسّطو الرتبة. ليس بدافع فقط من غريزة الانتقام المتأصّلة في نفوسهم، وإنّما كذلك بدافع من التزامهم بأجنداتهم الحزبية والعقائدية. وهذه الحالة تتفاقم وتتصاعد كلّما ازدادت اختلافات السياسيين ورؤاهم للحرب وأهدافها.

الذي أدخل هذا البعد الخطر في أداء الجيش الإسرائيلي هو المايسترو بنيامين نتنياهو. فهو حوّل إسرائيل الدولة العميقة، بما في ذلك جيشها وكلّ مؤسّساتها، كالحكومة والكنيست والقضاء، إلى أداة لتحقيق أجنداته الخاصة. واعتمد تحالفاً باهظ التكاليف داخلياً وخارجياً للتمكّن من مواصلة لعبته، وأساسها الإفلات من المساءلات والبقاء أطول مدّة في سدّة القيادة والقرار. وحين يكون الرجل الأوّل في إسرائيل هكذا، فما الذي ينجّي الجيش والمؤسّسات الأمنيّة من الاستقطابات والغرق في دوّامة صراع الأجندات؟

مايسترو التخريب المنهجي

نتنياهو مايسترو التخريب المنهجي للمؤسّسات جميعاً وعرّاب الاجتياح البرّي لكامل قطاع غزّة، يتمتّع بحماية دستورية توفّرها أغلبيّته الراسخة والمريحة في الكنيست. وهذا ما ضاعف المصائب على إسرائيل وجيشها. ويتمتّع كذلك بدعم الأغلبية الشعبية التلقائي لقرارات الحرب التي يقودها دون أن تؤثّر عليه مفارقة أنّ الغالبية التي تدعم الحرب هي ضدّ إدارته الفاشلة لها.

أيّ جيش مهما بلغت قوّة معدّاته وتقدّمها. يفقد أهمّ خصائص تفوّقه وضمان انتصاره إذا ما توغّل في المدن والتجمّعات السكنية المكتظّة

يتمتّع كذلك بالقيود الداخلية في أميركا التي تجعل من إدارة بايدن عاجزة عن معاقبته جرّاء خروجه الفظّ عن النصّ الأميركي. مكتفية بانتقادات يراها من النوع الذي يمكن التعايش معه وحتى التحايل عليه.

التوغّل العسكري الإسرائيلي في غزة، حيث الأنفاق والاكتظاظ السكّاني والملاذات الآمنة للمقاومين، وعدم تحقيق النتائج التي تمّ الاجتياح العسكري من أجلها. لم ينهكا فقط قوى الجيش المتوغّل والغارق في الأوحال والذي يخسر قتلى ومعدّات كلّ يوم، بل خلخلت قواعد الانضباط والالتزام بالمستوى السياسي “الشرعي”. وذلك لمصلحة الالتزام بالأجندات. وهذا أكثر ما يؤرق الأميركيين خاصة. فالجيش الإسرائيلي هو الاستثمار الأهمّ والاحتياط الاستراتيجي الإقليمي الذي لا يريدون رؤيته يضعف إلى حدّ فقدان الفاعلية الحاسمة عند اللزوم. وهذا ما لخّصه وزير الدفاع الأميركي بجملة واحدة، حين خاطب الإسرائيليين: “قد تكسبون الحرب تكتيكياً، لكن ستخسرونها استراتيجياً”.

الخلاصة أنّ أيّ جيش مهما بلغت قوّة معدّاته وتقدّمها يفقد أهمّ خصائص تفوّقه وضمان انتصاره إذا ما توغّل في المدن والتجمّعات السكنية المكتظّة. أمّا خصوصية جيش إسرائيل في هذا الأمر فهي أنّه يؤدّي حربه بتأثير مباشر من أجندات الصراع الداخلي وانتماءات الضباط والجنود إليها.

إقرأ أيضاً: حسابات الثّأر الإيرانيّ تريح الحزب… وتربك خطابه

لقد تقدّم الصحافي الشهير والحريص على مصالح إسرائيل العليا توماس فريدمان بنصيحة لصنّاع القرار في إسرائيل. قال فيها: “أخرجوا جيشكم من غزة فوراً”.

لقد تعوّدنا على توماس فريدمان أن ينطق بما لا يستطيع الرئيس بايدن أن ينطق به. وهذه خلاصة تؤكّد أنّ الغرق في الحواري والشوارع والأنفاق لا نصر من ورائه.

مواضيع ذات صلة

رفيق الحريري: هل تتحقّق العدالة بتصفية الأداة؟

“المخيف في الأعمال الشرّيرة هو أنّها تُرتكب على أيدي بشر عاديّين” حنة أرندت   ليس المقصود بتفاهة الشرّ بأنّ فعل الشرّ بحدّ ذاته مسألة تافهة….

لبنان والسّيادة… ووقاحة “الشّعب والجيش والمقاومة”

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكستين أخيراً. لا يزال يعمل من أجل وقف للنّار في لبنان. ليس ما يشير إلى أنّ طرفَي الحرب، أي إيران وإسرائيل،…

أرانب نتنياهو المتعدّدة لنسف التّسوية

إسرائيل تنتظر وصول المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، بعدما بات ليلته في بيروت لتذليل بعض العقد من طريق الاتّفاق مع لبنان والحزب، على وقع الانقسام…

كيف ستواجه تركيا “فريق ترامب الصّليبيّ”؟

عانت العلاقات التركية الأميركية خلال ولاية دونالد ترامب الأولى تحدّيات كبيرة، لكنّها تميّزت بحالة من البراغماتية والعملانيّة في التعامل مع الكثير من القضايا. هذا إلى…