من يغتال الناشطين المدنيين المعارضين لإيران في العراق؟

مدة القراءة 10 د


يبدو أنّ المشهد في العراق ما زال يدار بالعقلية والآلية نفسها، إن كان في القرارات التي تصدر عقب كلّ عملية اغتيال أو في الوعود التي تطلق بعدها عن نيّات جدّية لضبط الوضع والتصدّي لمحاولات وعمليات العبث بالأمن، واستهداف المواطنين والناشطين الذين رفعوا شعار الدفاع عن الدولة والسيادة والمؤسسات.

إقرأ أيضاً: الغرب يسمح بنجدة لبنان بحدود: أوّل الغيث قطر.. وليونة أميركية

فبعد عملية الاغتيال التي تعرّض لها الإعلامي هشام الهاشمي في بغداد بتاريخ 6 تموز 2020، كانت الإجراءات التي اتخذتها الحكومة العراقية بقيادة رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي، القائد العام للقوات المسلحة، إقالة قائد قوات الشرطة في القاطع الذي شهد عملية الاغتيال. ولم يمرّ اكثر من 24 ساعة حتى عادت عن هذا القرار من دون أن تعرف أسباب وموجبات القرار الأول ولا الثاني، سوى إمكانية أن يكون الأول نتيجة للتسرّع والتفتيش عن كبش فداء سريع بانتظار ما يمكن تحقيقه من نقاط لاحقاً. وأنّ الثاني أي العودة عن القرار، قد يكون نتيجة لعملية ضغوط تعرّض لها الكاظمي وفضّل الاستجابة لها. بالإضافة إلى الخوف من إمكانية خسارته لثقة مؤسسة الشرطة التي قد توضع في دائرة الاتهام الأولى، وتحمّل كامل المسؤولية في المسار التراكمي لعملية الفلتان الأمني والتسليحي الذي يسيطر على المشهد العراقي في جميع المناطق.

اغتيال تحسين ومن ثم ريهام، أعاد فتح جروح الاغتيال التي طالت الناشطين العراقيين منذ بداية التحرّك الشعبي مطلع تشرين الأوّل 2019 وعمليات القنص والقتل التي تعرّضوا لها في ساحات الاعتصامات خلال التظاهرات المطالبة بالإصلاح ومحاكمة الفاسدين

في أربعينية هشام الهاشمي، قامت عناصر مسلّحة بالدخول إلى منزل الناشط البصراوي تحسين أسامة الخفاجي وإطلاق أكثر من عشرين طلقة على صدره أمام أطفاله وعائلته في مشهد يشبه إلى حدّ كبير اغتيال الهاشمي في السيارة التي حملت أطفاله أيضاً، وأمام مدخل منزله. وقد أتت عملية الاغتيال هذه لتعيد فتح مسار عمليات الاغتيال التي تستهدف ناشطين مدنيين من جديد، في الوقت الذي كان العراقيون ينتظرون أن تخرج عليهم الحكومة بشخص رئيسها السيد الكاظمي للإعلان عن كشف الجهات المسؤولة عن عملية اغتيال الهاشمي وتقديمهم للعدالة. إلا أنّ هذه الحكومة وبعد مضي أكثر من خمسين يوماً على تشكيلها، لم تقدّم أحداً، ولم تعلن أيّ نتيجة للتحقيقات التي قامت بها، على الرغم من الوعود التي قدّمتها بالوصول إلى الفاعلين خلال 72 ساعة.

وفي الوقت الذي من المفترض أن يكون الهاشمي في عداد الوفد المرافق للكاظمي في زيارته التي توصف بالتاريخية إلى العاصمة الأميركية واشنطن، لاستحقاقه هذه العضوية بجدارة، أعلن عن قيام مجموعة مسلّحة تمتطي درّاجة نارية قد تكون نفسها التي استخدمها قتلة هشام، باغتيال الناشطة المدنية الدكتورة ريهام يعقوب وسط أحد شوارع مدينة البصرة داخل سيارتها التي كانت تستقلها مع صويحباتها. المنفّذون فرّوا إلى جهة مجهولة، والسلطات الأمنية بدأت عملية البحث والتحرّي، مع التأكيد أنّها ستعمل على كشف القتلة والمشغّلين خلال 72 ساعة. في وقت أمر رئيس الوزراء بإقالة قائد شرطة البصرة اللواء رشيد فليح وعدد من المسؤولين الأمنيين.

اغتيال تحسين ومن ثم ريهام، أعاد فتح جروح الاغتيال التي طالت الناشطين العراقيين منذ بداية التحرّك الشعبي مطلع تشرين الأوّل 2019 وعمليات القنص والقتل التي تعرّضوا لها في ساحات الاعتصامات خلال التظاهرات المطالبة بالإصلاح ومحاكمة الفاسدين والطبقة السياسية التي أطاحت بمؤسسات الدولية المدنية والأمنية والعسكرية والاقتصادية خدمة لمصالحها ونظام المحاصصات. تلك التي تسبّبت في انهيار الدولة والمجتمع على حدّ سواء. خصوصاً أنّ استمرار عمليات القتل واستهداف الناشطين يعيد على القوى الشبابية طرح السؤال الجوهري الأساس والوجودي حول الهدف الذي خرجوا وقدّموا من أجله هذا الكمّ الكبير من الضحايا، من أجل الانتقال إلى بناء الدولة والمؤسسات على أساس من العدالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومن أجل إعادة فرض سيادة الدولة وهيبتها بوجه الميليشيات وسلاحها المتفلّت الذي لا يخدم سوى مصالحها وحصصها وتقاسمها للدولة وثرواتها.

ريهام، الضحية الجديدة، وقد لا تكون الأخيرة في مسلسل الاغتيالات، طرحت في تسجيل مصوّر قد يكون الاخير لها، إشكالية تعرّضها مع ناشطين مدنيين آخرين لسلسلة من التهديدات بالقتل والاستهداف من قبل شخص سمّته مباشرة “إبراهيم” بسبب اتهام لها بأنّها تعمل مع زملاء لها على تفكيك الحشد الشعبي، وأنّ المؤامرة على الحشد كانت تجري بالتنسيق مع القنصل الأميركي في البصرة “تيمي ديفيس” الذي نسج علاقات واسعة مع الأوساط الشبابية المؤثرة والناشطة في البصرة. وحمّلت في شريطها المصوّر المسؤولية لمن يقفون وراء هذا الشخص والفصائل المتضرّرة من الجهود التي يقوم بها الناشطون في فضح عمليات الفساد والسرقة والقتل التي تقوم بها هذه الفصائل المحسوبة على الحشد الشعبي.

هي تغريدة تنسجم مع مطالب الشارع ومحاولة تيار مقرّب من الزرفي يعمد إلى رفع مستوى التحدّي بوجه حكومة الكاظمي من خلال التشكيك بأيّ إنجاز له قبل تنفيذ ما وعد به من حصر السلاح وتفعيل القضاء العادل وتقديم قتلة المتظاهرين والإعلاميين والناشطين إلى القضاء

هنا لا بدّ من التوقّف عند التغريدة التي أطلقها “عدنان الزرفي” محافظ النجف السابق بعد اغتيال الناشطة ريهام والتي اعتبر فيها أنّ “ما يحدث في البصرة من سلسلة اغتيالات بحق الشباب الأعزل، ما هي إلا إعلان حرب ضدّ الدولة، ومسؤولية حماية المواطنين تحتم علينا أن نطالب بصولة كبرى يقودها جهاز مكافحة الإرهاب، وبإشراف مباشر من القائد العام للقوات المسلحة لتنظيف البصرة من هؤلاء الشرذمة والمجرمين فهم أشدّ خطراً من داعش”. وهي تغريدة تنسجم مع مطالب الشارع ومحاولة تيار مقرّب من الزرفي يعمد إلى رفع مستوى التحدّي بوجه حكومة الكاظمي من خلال التشكيك بأيّ إنجاز له قبل تنفيذ ما وعد به من حصر السلاح وتفعيل القضاء العادل وتقديم قتلة المتظاهرين والإعلاميين والناشطين إلى القضاء. خصوصاً أنّ الجهة المتهمة بالوقوف وراء عمليات الاغتيال في البصرة تحسب على الميليشيات التابعة لإيران، وهي في الأصل مافيا خسرت مصادر تمويلها في المنافذ التي كانت تسيطر عليها، وعمل الكاظمي على استعادتها لصالح الدولة وخزينتها. ويضع البعض هذه الأعمال ضمن إطار الانتقام من الكاظمي الذي تسبّب في خسارة هذه الميليشيات مواردها التي تقدّر بمئات ملايين الدولارات، ويقال إنّها ستستمرّ في نشر الفوضى والشغب والقتل والاغتيال حتى تعود لفرض سيطرتها على هذه المنافذ.

 

في ظل هذه المعطيات، هل يمكن استبعاد الدور الإيراني في الوقوف وراء هذه الاغتيالات أو الاستهدافات؟

سؤال تفرضه الكثير من المعطيات التي تحكم العلاقة الإيرانية بهذه المحافظة الحدودية “البصرة” ذات الدور المحوري في النفوذ الإيراني داخل العراق، فضلاً عما صدر عن أوساط إعلامية تمثّل التيار المتشدّد في النظام الإيراني، التي وجّهت اتهامات واضحة وصريحة ومباشرة للعديد من الناشطين المدنيين في هذه المدينة بالتبعية والتنسيق مع الجانب الأميركي لاستهداف الوجود والدور الإيراني وحلفائه على الساحة العراقية من بوابة البصرة.

ففي 30 أيلول 2018، قامت صحيفة “وطن امروز” التي يرأسها مهرداد بذرباش الذي شغل منصب نائب رئيس الجمهورية محمود أحمدي نجاد لشؤون الشباب، ويشغل حالياً منصب رئيس ديوان المحاسبة التابع للبرلمان الإيراني، بنشر تقرير أخباري عن الأحداث التي شهدتها مدينة البصرة وأدّت بنتيجتها إلى حرق القنصلية الإيرانية بتاريخ 7 أيلول 2018، ومن ثم قرار الخارجية الأميركية بإغلاق قنصليتها بعد تلقيها معلومات عن وجود تهديدات من جماعات محسوبة على إيران بإمكانية الاعتداء على هذه القنصلية انتقاماً لما جرى في القنصلية الإيرانية.

ريهام يعقوب وعلي نجيم من بين الأشخاص الذي يعملون مع تيمي ديفيس، الذي عمل منذ وصوله إلى البصرة على التفتيش عن الأشخاص المؤثّرين في المدينة وبناء علاقات معهم

وفي التقرير، اتهام مباشر لكلٍّ من ريهام يعقوب وعلي نجيم، بالعمل والتنسيق مع القنصل الأميركي تيمي ديفيس لقيادة التحرّكات الشعبية والشبابية المعادية للوجود والنفوذ الإيراني والفصائل والأحزاب التابعة لها ولميليشياتها. وما قالته الصحيفة حينها أنّ “ما هو مسلّم به، وبناء على كلّ المؤشرات الموجودة، فإنّ الأميركيين هم من يتحكّم بحركة الشغب في البصرة خصوصاً الهجوم على القنصلية الإيرانية، والعلاقة اللصيقة لبعض العملاء المؤثرين بأعمال الشغب وهم ينشطون في الفضاء المجازي، مع تيمي ديفيس الذي يتولى مسؤولية القنصلية الأميركية في البصرة. وهو يأتي من خلفية أمنية واستخباراتية في القوات البحرية الأميركية. وهو يعتبر من أهمّ الأدلّة على أنّ أميركا هي التي تلعب دوراً محورياً في إدارة المشهد والأحداث في البصرة.  وأنّ “ريهام يعقوب وعلي نجيم من بين الأشخاص الذي يعملون مع تيمي ديفيس، الذي عمل منذ وصوله إلى البصرة على التفتيش عن الأشخاص المؤثّرين في المدينة وبناء علاقات معهم. وقامت القنصلية تحت غطاء احتفالات مثل يوم المرأة العالمي بدعوة الأشخاص الفعّالين على مواقع التواصل الاجتماعي، والقادرين على التأثير في الأوساط الحقيقية للبصرة إلى حفلات إفطار في القنصلية”. 

هذه الاتهامات لم تبقَ في إطار الماضي، فهي عادت لتوجّه إلى ريهام في المرحلة الأخيرة من قبل بعض وسائل الإعلام الإيرانية، وتحديدا وكالة “مهر”، حسب ما نقلت بعض وسائل الإعلام العربية، وقد أخذت طابعاً عملانياً بتنفيذ الاغتيال لها وقبلها لعدد من الناشطين، ما قد يحمل على الاعتقاد بوجود توجّه لدى جهات إيرانية بإرباك الساحة العراقية الأمنية، ومعها إدخال مشروع الكاظمي في فرض هيبة الدولة واستعادة السيادة في مرحلة من انعدام الوزن والتوازن لكون هذا المشروع ينال بالدرجة الأولى من دور ونفوذ الفصائل الميليشيات الموالية لها، ما ينعكس سلباً على قدرتها في التأثير في القرار السياسي في العراق. ومن أجل ذلك، تحاول توجيه رسائل بالدم إلى الكاظمي، ومن ورائه إلى الطرف الأميركي، بأنّها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام استهداف نفوذها، وأنها ستنال من كلّ الذين تعتبرهم مؤثّرين في تأليب الشارع العراقي ضدّها وضدّ حلفائها.

بناء على ما تسرّب من نتائج زيارة الكاظمي لإيران، وما جرى الحديث حوله من دعم إيراني للحكومة في التصدّي للجماعات التي تقوم بأعمال تخريبية والسلاح المتفلّت والمنفلت، كونها باتت تشكّل عبئاً على طهران وجهاز الحشد الشعبي الرسمي، تذهب أوساط عراقية وسطية إلى الاعتقاد بأنّ الميليشيات التي تقوم بعمليات الاغتيال للناشطين، بدأت تستشعر قرب نهايتها أو التخلّي الإيراني عنها، لذلك فهي تعمل على إرباك الساحة الداخلية باستهداف الجهات التي ساهمت في تسليط الضوء على دور هذه الميليشيات السلبي والتخريبي في عملية انتقامية تربك أيضاً الدور الإيراني الذي يرى صعوبة بالتعايش مع حالة عدائية ضدّه في العراق، خصوصاً في المدن الحدودية التي يعتبرها عمقاً استراتيجياً له. فضلاً عما فيها من محاولة كسر تجربة وطموحات الكاظمي في التأسيس لمرحلة جديدة في تاريخ العراق الجديد بعد نحو عقدين من فشل العملية السياسية على كلّ المستويات.

مواضيع ذات صلة

هوكستين موفد ترامب… فهل يضغط لإنجاز الاتّفاق؟

كثيرٌ من الضبابية يحيط بمصير المفاوضات التي قادها آموس هوكستين بين لبنان وإسرائيل، أو بالأحرى بين “الحزب” وإسرئيل، عبر رئيس مجلس النواب نبيه برّي. التفاؤل…

الاتّفاق Done: إعلانه خلال أيّام.. أو أسابيع؟

بين واشنطن وتل أبيب وبيروت أصبحت شروط الاتّفاق معروفة، ولا ينقصها سوى لمسات أخيرة قد تستلزم يوماً واحداً، وقد تطول لأسابيع، أربعة ربّما. لكن ما…

“اليوم التّالي” مطعّم بنكهة سعوديّة؟

لم يعد خافياً ارتفاع منسوب اهتمام المملكة العربية السعودية بالملفّ اللبناني. باتت المؤشّرات كثيرة، وتشي بأنّ مرحلة جديدة ستطبع العلاقات الثنائية بين البلدين. الأرجح أنّ…

مخالفات على خطّ اليرزة-السّراي

ضمن سياق الظروف الاستثنائية التي تملي على المسؤولين تجاوز بعض الشكليّات القانونية تأخذ رئاسة الحكومة على وزير الدفاع موريس سليم ارتكابه مخالفة جرى التطنيش حكوميّاً…