وداعاً شيرين.. تحيا فلسطين

مدة القراءة 4 د

خبر كالصاعقة يجتاح شبكات التواصل الاجتماعي: مقتل الصحافية الفلسطينية المخضرمة شيرين أبو عاقلة أثناء تغطيتها أحداث اقتحام مخيّم جنين في الضفّة الغربية. يأتيني صوت شيرين الذي ألفته ككثيرين من جيلي على مدى سنوات من متابعة أخبار فلسطين. وجهها الوديع ونظرتها الحالمة كانا في تناقض دائم مع كلماتها الدقيقة ونبرتها الحازمة. هكذا كانت شيرين وجهاً للأحداث الفلسطينية ومَعْلماً من معالم قصّة لا تندثر على الرغم من محاولات لا تنتهي لدفنها. أخرج إلى الشارع متّجهة إلى مقرّ عملي فأشعر بالجوّ من حولي ثقيلاً وكأنّه على وشك أن يبتلعني.

***

“خطفها الموت”، عبارة تأخذ معنى جديداً كلّ مرّة أقف فيها أمام رحيل مفاجئ. ينقضّ عليّ الغياب، وكأنّه شبح يفتح معطفاً أسود أكمامُه واسعة ويغلقه على شخص أعرفه، ثمّ يفتح الأكمام مرّة أخرى فيختفي الشخص. يبدو لي أنّ الغياب صار من سمات المرحلة، إذ أمضي أكثر وقتي في مواساة الأصدقاء بعدما كنت في مراحل سابقة أبارك أكثر ممّا أعزّي.

***

الموت يعني أن أقع في جوف الأرض وأختفي. الموت يعني أن تبتلعني حفرة أصادفها وأنا أمشي على طريق الحياة. الموت هو ذلك الثقب الأسود الذي يسحب مَن أحبّ ويتركني عاجزة الفعل والكلام والتفكير في مواجهة الغياب. مكان يصبح شاغراً لا أعرف كيف أتعامل معه.

***

الموت هو أن يكبر وجه مَن رحل ويعلو صوته في غيابه فيحاصران مَن بقي ويدفعانه إلى الجنون. وكأنّ الشخص رحل وبقي، هل تفهمون هذا التناقض؟ أفكّر كثيراً في مفهوم الرحيل وأنا أقدّم سلسلة من التعازي في هذه الفترة. أتساءل إن كان الرحيل أصعب على صاحب الشأن أم على مَن حوله؟ أتساءل إن كان الموت أسهل حين يأتي بشكل مفاجئ أم وهو بطيء؟ لو عندي خيار، هل أفضِّل أن أختفي أم أن أهيِّئ نفسي ومَن حولي وأنا أنسحب ببطء؟

***

رأيت طرقاً مختلفة للتعامل مع الرحيل، كأن يغرق أحدنا في الحزن، أو أن تشارك صديقة قصصاً جميلة عمّن رحل، أو أن يحتفل صديق كلّ يوم بحياة مَن فقده فيُشركنا بتفاصيل ملوّنة تبقي مَن رحل معنا دون دراما. يبدو لي أنّ خير طريقة للتعامل مع الرحيل قد تكون فعلاً مَلْأه بقصص مَن تركونا وكأنّنا نحتفل بحياتنا معهم. لن يخفّف ذلك من ثقل الفراق، إنّما سوف ترافق ضحكات ونظرات مَن ذهبوا أيّامَنا من خلال قصص ومواقف يحلو لنا قَصُّها ولغيرنا ربّما متابعتها.

***

يُقال إنّ علينا أن نحتفل بالحياة قبل أن ننسحب منها. علينا أن نقدِّر كلّ يوم يمضي ونحن أحياء. هو عيد ميلاد يوميّ، ملاحظة أنّني استيقظت اليوم، ما زلت هنا، أتحسّس ما حولي وأسمع صوت مَن في البيت، أشمّ رائحة القهوة التي أُعدّها وتقضي مرارة طعمها على ما بقي من آثار النوم في رأسي. 

***

أنا أفهم في مكان ما في عقلي أنّ كلّ مَن حولي قد ينسحب فجأة، كما بإمكاني أنا نفسي أن أختفي. لكنّ ذلك لا يخفّف أبداً من وقع خبر صاعق كخبر الموت. يبدو أنّ هناك فرقاً كبيراً بين استقبال العقل لخبر وبين تلقّي العاطفة له. نعرف جميعاً أنّنا في طريقنا إلى الموت بكلّ الأحوال، أليس كذلك؟ إنّما تلقّي إشارة واضحة تدلّ على الطريق أو أن يرحل شخص نحبّه فذلك يتطلّب أدوات للتعامل يجب اكتشافها. فلا أظنّ أنّ ثمّة مَن يملكها بشكل تلقائي.

***

لنتّفق إذاً على أنّ الحياة طريق ملتوٍ مع بعض المسافات المستوية، وأنّ على طرفَيْه مشاهد كثيرة تتفاوت مستويات جمالها وقسوتها وتتبادل الأماكن. فيظهر مثلاً أثر الثلوج على الزرع يوماً، ثمّ تشقّ فراشة ملوّنة شرنقتها وتلوِّن ما حولها في اليوم التالي. نمشي بخطى أحياناً ثابتة وأحياناً أخرى متعثّرة. يقع بعض مَن حولنا في حفر الموت فنقف أمام الفراغ فاتحين أفواهنا من هول الصدمة، ثمّ نكمل الطريق. الجديد بالنسبة لي هو التفكير في أنّني أيضاً قد أقع في الحفرة، وهو شيء بصراحة لم يكن يخطر على بالي من قبل، أو لم أفكّر فيه سابقاً بشكل جدّيّ. ربّما افتقرت إلى التواضع من قبل، واعتقدت أنّني أباغت الحياة وأبقى فيها على عكس غيري. أو أنّني أوفر حظّاً من الكثيرين. وها أنا اليوم ما زلت أؤمن أنّني أوفر حظّاً، إنّما أقول لنفسي إنّ الحفر واردة في أيّ لحظة وعليّ أن أتقبّل ذلك.

***

إقرأ أيضاً: كانت معكم شيرين أبو عاقلة

أعود إلى خبر مقتل شيرين، أسمع صوتها الذي ألفته على مدى سنوات طويلة عصفت خلالها بالمنطقة أحداثٌ تتوسّطها كالعادة أحداث فلسطين. أن تختفي شيرين التي دخلت بيوتاً كثيرة من خلال الشاشة هو خبر صاعق. شيرين التي لطالما نقلت الأخبار تصبح اليوم الخبر برحيلها الصادم. الصحافية التي نقلت الموت المباشر ها هي قد ماتت على الشاشة تماماً كمَن كانت تنقل نهاياتهم. ابتلعتها الأرض، بعد مشاوير كثيرة قضتها شيرين تنقل القصص حتى عرف الكثير منّا فلسطين دون أن يزورها. وداعاً شيرين، تحيا فلسطين.

 

*نقلاً عن الشروق المصرية

مواضيع ذات صلة

مشروع إيران التّوسّعيّ: ما بُنيَ على متغيِّر.. سيتغيَّر

لا خلاف في أنّ لدى إيران مشروعها التوسّعي في المنطقة. وكلمة “توسّعي” ليست استنتاجاً، إنّما حقيقةٌ تعكسها التصريحات الغزيرة والصادرة عن الكثير من القيادات الإيرانية…

جنبلاط يقبض على اللّحظة الإقليميّة

كان الرئيس السابق لـ”الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط في طليعة من قاربوا بالتعليقات الرمزية وبالمواقف، وبالخطوات العملية، مفاعيل الزلزال السوري على لبنان.   يتميّز جنبلاط…

سليمان فرنجيّة: رئاسة الحظّ العاثر

ـ عام 2004 سأل بشار الأسد سليمان فرنجية: “هل للرئاسة في لبنان عمر معيّن كما عندنا؟ لا يُنتخب رئيس الجمهورية قبل بلوغه الأربعين؟”. ـ مرّتين…

الشّرع وسوريا: الرّسم بالكلمات

لم نسمع من أحمد الشرع أو أيّ وزير من الحكومة المؤقّتة في سوريا أيّ رفع لشعار “الإسلام هو الحلّ” الذي درجت جماعة الإخوان المسلمين على…