متى يدفع بوتين الثمن؟

مدة القراءة 6 د

أراد فلاديمير بوتين جعل أوروبا على نسق فنلندا، فإذا به يجعل من أوروبا كلّها أطلسيّة، أي منتمية إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وهو حلف دفاعي قبل أيّ شيء آخر، خلافاً لِما يقول بعض الجهلة الذين لا يدركون شيئاً عن طبيعته وعن ظروف قيامه في مرحلة ما بعد الحرب العالميّة الثانية.

كان “تحوّل أوروبا كلّها إلى أطلسيّة” من بين الملاحظات الذكيّة النادرة للرئيس جو بايدن على هامش القمّة التي انعقدت في مدريد وشارك فيها رؤساء الدول المنتمية إلى الحلف الأطلسي، بمن في ذلك الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان. كشفت القمّة وجود حلف غربي واسع اتّخذ قراراً بمواجهة الرئيس الروسي الذي يتبيّن في كلّ يوم أنّه يجهل العالم. يجهل العالم إلى درجة أنّه لم يدرك معنى سحب إردوغان اعتراضه على انضمام كلّ من فنلندا والسويد إلى الحلف الأطلسي في خروج عن السياسة التقليدية لبلدين فضّلا دائماً البقاء خارج التجاذبات الدولية. بقيت فنلندا والسويد خارج هذه التجاذبات طوال الحرب الباردة بين 1945 وبداية  عام 1992  تاريخ الإعلان رسميّاً عن تفكيك الاتحاد السوفياتي… ونهايته السعيدة بكلّ ما كان يمثّله من احتقار لحقوق الإنسان وتدخّل فظّ في دعم الديكتاتوريّين في العالم!

أراد فلاديمير بوتين جعل أوروبا على نسق فنلندا، فإذا به يجعل من أوروبا كلّها أطلسيّة، أي منتمية إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو)

في كلّ يوم يمرّ، يتأكّد كم يشبه فلاديمير بوتين صدّام حسين الذي كان يجهل ما هي المنطقة وما هو العالم وما طبيعة التوازنات فيه. ذهب صدّام إلى احتلال الكويت، البلد المستقلّ الجار في عام 1990، غير مدرك للنتائج التي ستترتّب على مغامرته المجنونة ومعنى الاستيلاء على دولة نفطيّة لها مكانتها في مجال الطاقة في العالم. لم يعِ في أيّ وقت خطورة ما أقدم عليه ولماذا توحّدت المنطقة والعالم في وجهه.

ما ينطبق على الرئيس العراقي الراحل، ينطبق أيضاً على الرئيس الروسي الذي لم يفرّق بين شنّ حرب على أوكرانيا وبين التدخّل عسكرياً في سوريا في عام 2015 لإثبات أنّ روسيا صارت تمتلك موقعاً في المياه الدافئة، في اللاذقية وطرطوس. لم يفرّق بوتين بين التدخّل في سوريا، خدمةً لإيران، وبين غزو أوكرانيا الذي يشير إلى نقل الحرب إلى داخل أوروبا. كان يعتقد أنّ العالم سيرضخ لروسيا بمجرّد تهديده باستخدام السلاح النووي. نسي أنّ آخرين، بمن في ذلك أميركا وبريطانيا وفرنسا، يمتلكون هذا السلاح الذي كان يرمز إلى “توازن الرعب” في أيّام الحرب الباردة.

لم تعد هناك فائدة من التهديد بالسلاح النووي بعد دخول الحرب الأوكرانيّة شهرها الخامس. صار على الجيش الروسي استخدام كلّ ما لديه من أسلحة دمار كي يثبت أنّه قادر على احتلال جزء من أوكرانيا. في المقابل، هناك عالم غربي ينظّم نفسه ويرتّب أوضاعه كي لا تعود لديه أيّ علاقة من أيّ نوع بروسيا ما دام على رأسها فلاديمير بوتين.

يرفض الرئيس الروسي الاعتراف بأنّ هناك ثمناً عليه دفعه، وأنّ عليه الرحيل اليوم قبل غد، لكن ما العمل مع سياسيّ مريض لا يعرف شيئاً عن العالم وموازين القوى فيه وخطورة دخول أوكرانيا بحجّة منعها من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي؟

ثمّة دلائل عدّة تعطي فكرة عن مدى الاستعداد الغربي للذهاب بعيداً في الطلاق التامّ مع روسيا. هناك قبل كلّ شيء الانقلاب الذي حصل في ألمانيا التي قرّرت أن تُعيد الاعتبار لجيشها والاستغناء نهائيّاً عن الغاز والنفط الروسيَّيْن. هذا تطوّر لا سابق له منذ عام 1945  بعد اعتراف ألمانيا بهزيمتها في الحرب العالميّة الثانية وقبول أن تكون هناك قوات وقواعد أميركيّة وبريطانيّة وفرنسيّة في أراضيها بشكل دائم. قرّرت ألمانيا الاستفادة من وجود الجيش الأميركي في أراضيها والعمل في الوقت ذاته على إعادة بناء جيشها. ألمانيا توحّدت بعد سقوط جدار برلين في عام 1989، وهي تخلّصت، بفضل فلاديمير بوتين وما أقدم عليه في أوكرانيا، من القيود التي كانت تحول دون تسلّحها وبناء جيش كبير متطوّر خاصّ بها.

في ضوء حرب أوكرانيا، هناك قرار أميركي بتعزيز الوجود العسكري في أوروبا. سيصل عدد الجنود والضباط الأميركيين إلى مئة ألف موزّعين على إسبانيا وبولندا ورومانيا ودول البلطيق الثلاث (ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا) وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا.

قرأ الرئيس التركيّ الذي يعاني بلده من أزمة اقتصاديّة عميقة بسبب قصر نظره واعتناقه أفكار تنظيم الإخوان المسلمين، بكلّ تخلّفها، طبيعة التغيّرات التي يشهدها العالم بشكل جيّد ودقيق. لم يكتفِ بإعادة مدّ الجسور مع دول المنطقة، خصوصاً المملكة العربيّة السعوديّة ودولة الإمارات العربيّة المتّحدة، بل ذهب إلى أبعد من ذلك عندما أعاد الدفء إلى علاقات تركيا بإسرائيل. إضافة إلى ذلك، لم يتردّد في السعي إلى علاقات أفضل مع مصر.

ليست التصرّفات الأخيرة للرئيس التركي سوى دليل على أنّه تغيّر في العمق. لن يتمكّن بعد الآن من الرهان على فلاديمير بوتين من أجل ابتزاز أميركا وأوروبا. اكتشف متأخّراً أن لا فائدة تُذكر من منظومة صواريخ “إس – 400” التي اشتراها من روسيا. وجد إردوغان صيغة تنقذ ماء الوجه تمهيداً لسحب اعتراضه على انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف الأطلسي.

إقرأ أيضاً: لهذه الأسباب بوتين يربح الحرب!

سيعيد الغرب تنظيم صفوفه، بما في ذلك البحث عن خطط أكثر فعّاليّة لمواجهة الصين. طوى الغرب ملفّ فلاديمير بوتين. لن يكون ممكناً التعاطي معه بعد الآن. عندما لا يعود شخص من طينة رجب طيب إردوغان يخشى فلاديمير بوتين، معنى ذلك أنّ الرئيس الروسي صار منبوذاً، تماماً كما حصل مع صدّام حسين عندما قرّر اجتياح الكويت… وصولاً إلى إخراجه منها.

يرفض الرئيس الروسي الاعتراف بأنّ هناك ثمناً عليه دفعه، وأنّ عليه الرحيل اليوم قبل غد، لكن ما العمل مع سياسيّ مريض لا يعرف شيئاً عن العالم وموازين القوى فيه وخطورة دخول أوكرانيا بحجّة منعها من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي؟ متى يدفع فلاديمير بوتين الثمن بعد تحوّل الحرب الأوكرانيّة إلى حرب استنزاف لبلد مثل روسيا يقلّ حجم اقتصاده عن حجم الاقتصاد الإيطالي على الرغم من كلّ ما يملكه من نفط وغاز وثروات طبيعيّة أخرى؟

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…