ماتاتياس شوارتز Mattathias Schwartz وجون هالتيفانغر John Haltiwanger – INSIDER
قبل أسابيع قليلة فقط، كان الحلفاء الغربيون يهنّئون أنفسهم على إحباط الغزو الروسي لأوكرانيا. هم لم يعتبروا هجوم فلاديمير بوتين همجيّاً وحسب، بل كان بنظرهم فشلاً مُذلّاً. فعندما توقّفت روسيا عن محاولة احتلال كييف، وانهارت في خاركيف، فإنّما تخلّت في النهاية عن محاولة التوغّل في شمال أوكرانيا. بالمقابل، ارتفعت أصوات المحلّلين الغربيّين للدلالة على “غطرسة” بوتين، وقارنوا حكومته بحكومة الاتحاد السوفياتي قبل انهياره مباشرة. حتى إنّ بعضهم أشار إلى أنّ بوتين على وشك الوقوع ضحيّة لمرض عُضال أو انقلاب وشيك. أمّا الرئيس جو بايدن فأعلن أنّ “هذه الحرب كانت بالفعل فشلاً استراتيجياً لروسيا”.
لكنّ المفارقة هي أنّ بايدن وحلفاءه انخرطوا هم أنفسهم في النوع نفسه من التفكير الرغبوي wishful thinking الذي قاد بوتين إلى غزو أوكرانيا في المقام الأوّل. فمع استمرار الحرب، هناك قضية قويّة يجب طرحها على بساط البحث، وهي أنّ بوتين يفوز، ليس فقط في أوكرانيا، لكن في الميدان الجيوسياسي الأكبر أيضاً.
لنبدأ بالحرب نفسها. نجح إلى حدٍّ كبير قرارُ بوتين بشأن تركيز قوّته الناريّة على الجبهة الشرقية في إيصال الصراع إلى طريق مسدود. وبتكلفة باهظة، طهّرت القوات الروسية آخر معاقل القوات الأوكرانية في مدينة ماريوبول. ويبدو أنّها على وشك الاستيلاء على مدينة سيفيرودونتسك Severodonetsk الشرقية الرئيسية. يقول إدوارد لوتواك Edward Luttwak، الاستراتيجي العسكري الذي يقدّم المشورة للحكومات في جميع أنحاء العالم، لـ”Insider” إنّ “بوتين يفوز في هذه اللحظة. فبعد إقالة عدد من الجنرالات وترقية العقداء الأفضل، لأنّهم أقلّ طموحاً في أهداف الحرب، أي عدم الاستيلاء على كييف، وعدم الاحتفاظ بخاركيف، وعدم السعي إلى أخذ أوديسا، تستطيع روسيا إحراز تقدّم بطيء في الشرق بطريقة ستالينغراد (حيث خيضت المعركة الأشرس بين الاتحاد السوفياتي وألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية بين 23 آب 1942 و2 شباط 1943). والسمة الغالبة في هذه الطريقة، هو القصف الهائل للمباني”.
خارج ساحة المعركة، حقّق بوتين سلسلة من الانتصارات. أكثرها وضوحاً هو كيف نجح الغزو في إلحاق الضرر باقتصادات أعدائه في جميع أنحاء العالم
خسائر أوكرانيا تتزايد
تخسر أوكرانيا، وفقاً لمستشار الرئيس فولوديمير زيلينسكي، ما بين 100 إلى 200 جندي كلّ يوم. يقول جيفري إدموندز Jeffrey Edmonds من مركز التحليلات البحرية Center for Naval Analyses، الذي كان مستشاراً للبيت الأبيض بشأن روسيا خلال السنوات التي قضاها في مجلس الأمن القومي: “الأوكرانيون في موقف صعب الآن. إنّهم يخسرون أكثر بكثير ممّا كانوا عليه في الأيّام الأولى للحرب، لأنّها حرب تقليدية، مع مبارزات مدفعيّة. وهذا يتلاءم حقّاً مع نقطة قوّة روسيا.”
حتى كبار مستشاري بايدن مُضطرّون إلى الاعتراف بأنّ لبوتين الآن اليد العليا في المعركة. “من الواضح أنّ الأرقام هي في جانب الروس”، كما قال الجنرال مارك ميلي Mark Milley، رئيس هيئة الأركان المشتركة، يوم الأربعاء الماضي. “لدى الروس أسلحة أفضل، ومداها أطول”، وهو ما حوّل هذا الصراع إلى مواجهة مؤلمة ومكلفة. ويقول ستيفن بيفر Steven Pifer، سفير الولايات المتحدة السابق لدى أوكرانيا لـ “Insider”: “كان تقييم الحكومة الأميركية أنّ من المحتمل أن يتحوّل الصراع إلى حرب استنزاف. فالطرفان يتبادلان القصف، لكنّ كلَيْهما غير قادر على تحقيق اختراق حاسم يُنهي الحرب. ويبدو أنّ هذا هو السيناريو الأكثر احتمالاً في المستقبل القريب.”
خارج ساحة المعركة، حقّق بوتين سلسلة من الانتصارات. أكثرها وضوحاً هو كيف نجح الغزو في إلحاق الضرر باقتصادات أعدائه في جميع أنحاء العالم. أسواق الأسهم تنخفض، وأسعار الفائدة ترتفع، والتضخّم يرتفع، وأسعار الغاز ترتفع إلى عنان السماء. هناك عوامل أخرى ساهمت بالطبع في تدهور الاقتصاد الغربي. لكنّ قرار بوتين إرسال قوّاته عبر الحدود، والارتفاع اللاحق في أسعار النفط، كانا بمنزلة الإبرة التي فجّرت فُقّاعة التعافي من الوباء. اقترب بايدن نفسه من الاعتراف بذلك عندما حاول إعادة تفسير ارتفاع أسعار الغاز في الولايات المتحدة على أنّه “ارتفاع بوتين للأسعار”.
خسائر الغرب أيضاً
بالمقابل، من المؤكّد أنّ روسيا تشهد أيضاً تداعياتها الاقتصادية من الغزو. ارتفع معدّل التضخّم إلى 17%، ومن المتوقّع أن ينكمش الاقتصاد الروسي بنسبة 8.5% هذا العام. لكنّ سيطرة بوتين على وسائل الإعلام وصناديق الاقتراع تجعل من السهل عليه التغلّب على هذا النوع من العواصف الاقتصادية التي ربّما تؤدّي إلى اضطرابات سياسية في الديمقراطيات الغربية. يقول مرتضى حسين، المعلِّق في السياسة الخارجية، إنّ الحكومة الروسية “مستعدّة لتحمّل آلاف وآلاف من الضحايا، كي تجرّب وتفشل. هذه ليست أزمة سياسية كبيرة في روسيا، كما لو كانت في الولايات المتحدة. لدى بوتين المزيد من الأدوات للسيطرة على الرأي العام.”
في الواقع، فإنّ التحالف الغربي الذي ربط أجزاءه بعضها ببعض وزيرُ الخارجية أنطوني بلينكين Antony Blinken ودبلوماسيون أميركيون آخرون بمثل هذه الرعاية في الأيام الأولى للحرب، آخذ في الانهيار. لقد حجبت تركيا والمجر، وكلاهما عضو في حلف الناتو، موافقتهما على المبادرات الرئيسية التي تهدف إلى عزل روسيا. تضغط فرنسا وألمانيا بشدّة للتفاوض مع روسيا، خلافاً لنظرائهما في المملكة المتحدة، ودول البلطيق، والولايات المتحدة، حيث يتردّد القادة في الثقة ببوتين مجدّداً بعد تجربة نهجه ذي الوجهين في محادثات السلام خلال الصراع السوري. بدأت هذه الخلافات في الظهور علناً، فأدّت إلى نشوء جبهة غير موحّدة، تجعل من الصعب على الغرب مواجهة بوتين.
تخسر أوكرانيا، وفقاً لمستشار الرئيس فولوديمير زيلينسكي، ما بين 100 إلى 200 جندي كلّ يوم
تساقط داعمي أوكرانيا
وكلّما ابتعدت عن التحالف الغربي، زاد انقسام الرأي. فما يزال جزء كبير من إفريقيا، التي كانت محور حملات الدعاية والجهود الدبلوماسية الروسية، متردّداً في اتّخاذ موقف ضدّ بوتين. في الأمم المتحدة، صوّتت ثماني دول إفريقية فقط مع الأغلبيّة من أجل تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان بسبب أدلّة على أنّ القوات الروسية ارتكبت فظائع جماعية في أوكرانيا. وصوّتت تسع دول ضدّ هذا الإجراء، وامتنعت 22 دولة أخرى عن التصويت. وفي وقت سابق من هذا الشهر، التقى رئيس الاتحاد الإفريقي مع بوتين بهدف الحصول على مساعدة روسيا في أزمة الغذاء الرهيبة في منطقة جنوب الصحراء الكبرى. وهي مفارقة مريرة، بالنظر إلى أنّ غزو بوتين لأوكرانيا، المزوِّد الرائد للموادّ الغذائية، هو الذي يعرّض عشرات الملايين من الناس حول العالم للمجاعة.
الصين والهند أيضاً غير راغبتين في مواجهة بوتين. لقد اتّبعت القيادة الصينية بجدّيّة موقفاً محايداً تجاه أوكرانيا، بينما ينشط المسؤولون على المستوى الأدنى ووسائل الإعلام التابعة للدولة في نشر المعلومات الروسية المضلِّلة. اتّبعت الهند، وهي دولة ديمقراطية وشريك للولايات المتحدة ظاهرياً، نهجاً مشابهاً. فقد صرّح سوبراهمانيام جايشانكار Subrahmanyam Jaishankar، وزير الشؤون الخارجية الهندي، في منتدى في أوائل حزيران الحالي: “على أوروبا أن تخرج من عقليّة أنّ مشاكل أوروبا هي مشاكل العالم، إلا أنّ مشاكل العالم ليست مشاكل أوروبا”. ويقول المعلّق السياسي مرتضى حسين: “لقد أوضح نقطة جيّدة. إنّه يقول: أنتم يا رفاق لا تلجأون إلى الأخلاق أو تهتمّون حقّاً عندما تحدث أمور في آسيا. الآن تطلبون منّا أن نضع مصالحنا الخاصّة جانباً”. هذا ليس انتصاراً دعائياً لبوتين بقدر ما هو حساب عقلاني للمصالح لدى الدول غير الغربية.
كتب نابليون ذات مرّة أنّ الحرب هي مسألة رأي. وهذا، على المدى الطويل، قد يكون هو ما سيحدّد في نهاية المطاف ما إذا كان بوتين سينتصر في غزوه لأوكرانيا. لا يتعلّق الأمر فقط بما إذا كان بمقدور الغرب مساعدة أوكرانيا في الحفاظ على اقتصادها أو تزويدها بالأسلحة والذخيرة الكافية لمواجهة بوتين. يقول السفير الأميركي السابق بيفر: “ستكون القضية الكبرى ما إذا كانت هناك إرادة سياسية في أوروبا والولايات المتحدة لمواصلة القتال. حتى الآن، أعتقد أنّ الإرادة موجودة. لكن لا أعرف إن كانت ستستمرّ ستّة أشهر أو 12 شهراً بعد”.
إقرأ أيضاً: “الأرض مقابل السلام” في أوكرانيا؟
ونظراً إلى أنّ الأميركيين يعانون من ارتفاع التكاليف الاقتصادية للحرب، فليس هناك ما يضمن استمرار إجماع الحزبين الجمهوري والديمقراطي بشأن أوكرانيا خلال انتخابات الكونغرس عام 2022 والانتخابات الرئاسية عام 2024. بالفعل لقد بدأ القادة الغربيون باتّخاذ مسار دقيق لتعديل توقّعات الجمهور هبوطاً لا صعوداً. فقد حذّر الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في خطاب ألقاه الأسبوع الماضي من أنّ “هذه الحرب لم تنتهِ بعد. والتكاليف ستستمرّ في الارتفاع”. فمع بدء تلاشي حلم الغرب بإنهاء حرب بوتين بسرعة من خلال العقوبات الاقتصادية، ستندلع الحرب بشكل متزايد في ساحة معركة يتمتّع فيها بوتين بالأفضليّة، في مضخّات الغاز الأميركية ومحالّ البقالة.
لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا