“الأرض مقابل السلام” في أوكرانيا؟

مدة القراءة 9 د

ريتشارد هاس – Richard Haass Foreign Affairs

 

مع تجاوز الحرب الروسية ضدّ أوكرانيا عتبة مئة يوم، تتزايد الدعوات في الولايات المتحدة وأوروبا إلى إنهاء الصراع. لقد طرحت إيطاليا خطة سلام مفصّلة، وشدّد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على أهميّة منح روسيا مخرجاً، واقترح وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر أن تنظر أوكرانيا في مسألة التنازل عن أراضٍ لروسيا مقابل السلام.

لكنّ الحروب تنتهي بإحدى طريقتين فقط: عندما يفرض أحد الطرفين إرادته على الآخر، أوّلاً في ساحة المعركة، ثمّ على طاولة المفاوضات، أو عندما يتبنّى الطرفان حلّاً وسطاً يعتبرانه أفضل من القتال. في أوكرانيا، من غير المرجّح أن يتحقّق أيٌّ من السيناريوهين في أيّ وقت قريب. لقد أصبحت حرب استنزاف تتواجه فيها القوات الروسية والأوكرانية في منطقة ضيّقة نسبيّاً. دبلوماسيّاً، لا يهتمّ الأوكرانيون كثيراً بفكرة قبول احتلال روسيا لمساحات واسعة من أراضيهم. أمّا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فغير مهتمّ بالموافقة على أيّ شيء يمكن الحكم عليه داخل روسيا بأنّه هزيمة. الاستنتاج الذي لا مفرّ منه، هو أنّ هذه الحرب ستستمرّ، ويطول أمدها.

حسابات كييف أكثر تعقيداً. فمثل أيّ دولة تعرّضت للهجوم، أُجبرت أوكرانيا على تحديد أهدافها الحربية بسرعة

مع استبعاد انتصار أيّ طرف، أو إنجاز تسوية على طاولة المفاوضات في المستقبل المنظور، تحتاج الولايات المتحدة وأوروبا إلى استراتيجية لإدارة صراع مفتوح. “الإدارة”، وليس “الحلّ”، هي الكلمة العمليّة هنا، لأنّ الحلّ سيتطلّب بالتأكيد تغييراً جوهرياً في سلوك موسكو، إمّا بسبب الاحتجاج الشعبي الواسع النطاق في روسيا الناجم عن الانهيار الاقتصادي أو الخسائر الهائلة أو بسبب الضغط الصيني. وهذا غير محتمل. لذا من المرجّح أن يضطرّ المرء إلى انتظار ظهور زعيم روسي جديد مستعدّ لقبول أوكرانيا بما هي دولة ذات سيادة حقيقية، وهذا، لسوء الحظ، يتجاوز قدرة الغرب على تحقيقه.

 

خيار روسيا

مع استبعاد تحقيق تغيير النظام في كييف، قلّل بوتين من طموحاته، مكتفياً بالسعي إلى السيطرة على جزء من جنوب أوكرانيا وشرقها، في محاولة لتوسيع الأراضي التي استولى عليها في عام 2014، وربط بعضها ببعض. لكنّ ما لم يتنازل عنه هو ما يعتقده من أنّ أوكرانيا لا تستحقّ أن تكون كياناً ذا سيادة. نتيجة لذلك، من الصعب تخيّل بوتين وهو يُنهي الصراع، سواء أكان يخسر أو يربح في الميدان.

ونظراً إلى أنّ الحكومة الروسية قادرة على التحكّم على نحوٍ فعّال بالمعلومات، ولا سيّما تلك المتعلّقة بخسائر الجيش الروسي، واتّخاذ إجراءات صارمة ضدّ خصومها، فقد ظلّ الانتقاد المحلّي للحرب خافتاً نسبيّاً حتى الآن. لكن ماذا لو تصاعد الضغط الاقتصادي؟ في الوقت الحالي، لا تقترب العقوبات من نقطة التهديد بإسقاط بوتين. لقد ساعد ارتفاع أسعار النفط، وظهور المشترين مثل الهند، على تعويض انخفاض المبيعات إلى الغرب. ومن جهتها، تواصل أوروبا استيراد الغاز الروسي. لكن إذا توقّفت عن استيراده، فستضطرّ روسيا بشدّة إلى بيع الغاز لآخرين، لكن من المرجّح أن تستمرّ أوروبا في الشراء. ستقاوم الدول الأوروبية، التي تشعر بالقلق بشأن اقتصاداتها، قطع واردات الطاقة من روسيا إلى أن تتأكّد من توافر إمدادات بديلة من الغاز أو مصادر طاقة بديلة، وكلّها تحتاج إلى سنوات كي تتحقّق.

ثمّ هناك الضغط المحتمل من الصين التي وقفت حتى الآن إلى جانب روسيا. فإذا أقنع الغرب بكين بالنأي بنفسها عن موسكو، فقد يدرك بوتين أنّ غزوه قد كلّفه شريكاً حيويّاً. يجب على الولايات المتحدة وأوروبا بذل كلّ ما في وسعهما لتفريق القوّتين. لكنّ الرئيس الصيني شي جين بينغ سيكون متردّداً جدّاً في فعل أيّ شيء من شأنه أن يؤدّي إلى هزيمة روسيا أو أن يوحي بأنّه كان مخطئاً في ربط الصين بشكل وثيق مع روسيا.

 

المشهد من أوكرانيا

حسابات كييف أكثر تعقيداً. فمثل أيّ دولة تعرّضت للهجوم، أُجبرت أوكرانيا على تحديد أهدافها الحربية بسرعة. لكنّ حكومتها لا تتحدّث بصوت واحد، وقد غيّر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي موقفه، أكثر من مرّة. تارة، يطالب باسترجاع كلّ أراضي أوكرانيا حتى التي فقدتها عام 2014، وتارة أخرى، يُلمح إلى إمكانية التنازل عن أراضٍ منها.

ليس من المستغرَب أن تتزايد الرغبة في إنهاء الحرب مع ارتفاع تكاليفها البشرية والاقتصادية والدبلوماسية

من أجل السلام، يتعيّن على أوكرانيا النظر في عدد من العوامل. العامل الأكثر إلحاحاً، هو التكلفة المباشرة للحرب. وعاملٌ آخر هو رجحان كفّة روسيا عسكرياً، على الرغم من أنّ أداء أوكرانيا كان أفضل بكثير ممّا كان متوقّعاً. فروسيا ركّزت قواتها وقدرتها النارية في جزء أصغر من البلاد. أمّا تمكُّن أوكرانيا من دفع القوات الروسية إلى الحدود، فهو أقلّ رجحاناً بكثير ممّا كان عليه قبل شهر. وهو احتمال كان سيدفع بوتين اليائس إلى التفكير في استعمال أسلحة الدمار الشامل.

وممّا يزيد من تعقيد حسابات صنع القرار في أوكرانيا، هو مدى صلابة الدعم الآتي من الغرب. في الولايات المتحدة، يُظهر الحزب الجمهوري علامات كلاسيكية على الانعزالية، حيث صوّت 11 عضواً جمهورياً في مجلس الشيوخ و57 عضواً جمهورياً في مجلس النواب ضدّ حزمة المساعدات البالغة 40 مليار دولار، والتي أُقرّت في أيار الماضي. جادل الجمهوريون البارزون الآخرون، بمن فيهم الرئيس السابق دونالد ترامب، وجي دي فانس J. D. Vance، مرشّح الحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ في أوهايو، بأن الاحتياجات المحلّية يجب أن تكون لها الأسبقية على مساعدة أوكرانيا. في الجانب الديمقراطي، يشكّل ارتفاع أسعار الغاز، جزئياً بسبب الحرب، مشكلة سياسية خطيرة لإدارة بايدن. هناك قضايا أخرى تزاحم أوكرانيا، مثل الإجهاض، والسيطرة على السلاح، والتضخّم، وأمن الحدود، وجرائم المدن. وفي أوروبا، هناك قلق متزايد بشأن التداعيات الاقتصادية والأمنيّة الطويلة المدى لعزل روسيا، واحتمال أن يدخل الناتو في صراع مباشر مع روسيا إذا وسّع بوتين الحرب، وتدفّق اللاجئون الأوكرانيون، وارتفعت أسعار الطاقة. لكن على الرغم من كلّ هذه الاعتبارات، فمن شبه المؤكّد أنّ أوكرانيا ستصمد، وترفض قبول السلام بأيّ ثمن.

هل للسلام فرصة؟

ليس من المستغرَب أن تتزايد الرغبة في إنهاء الحرب مع ارتفاع تكاليفها البشرية والاقتصادية والدبلوماسية. التسوية المقترحة الأكثر شيوعاً هي أن تتنازل أوكرانيا عن بعض الأراضي التي تحتلّها روسيا حالياً مقابل موافقة موسكو على إنهاء الأعمال العدائية. لقد كان نهج “الأرض مقابل السلام” هذا مصدراً للكثير من الجهد الدبلوماسي في الشرق الأوسط، منذ حرب الأيام الستّة عام 1967، عندما اقترح مجلس الأمن أن تتخلّى إسرائيل عن الأراضي التي احتلّتها في الحرب مقابل السلام مع الدول العربية.

لقد نجح إطار العمل هذا في عدّة حالات، ليس أكثر من معاهدات السلام التي وقّعتها إسرائيل مع مصر والأردن، لكنّه غير مناسب لأوكرانيا. والفرق كبير بين الحالتين. أن يتنازل القويّ عن الأرض من أجل تحقيق السلام شيء، كما كان الحال مع إسرائيل، وأن يعرض الطرف الأضعف (أوكرانيا) الأرض على الطرف الأقوى (روسيا) على أمل أن يرضى في النهاية، هو شيء آخر. كان هذا هو النهج المتّبع في ميونيخ عام 1938، عندما حصل أدولف هتلر على أرض السوديت Sudetenland، التي كانت آنذاك جزءاً من تشيكوسلوفاكيا. وفَقَد هذا النهج مصداقيّته منذ ذلك الحين.

ومع ذلك، يجب على أيّ طرف في النزاع أن يوازن باستمرار بين تكاليف الاستمرار في الحرب وفوائدها. قد لا يكون التنازل عن الأرض مقابل السلام خياراً جذّاباً لأوكرانيا. والسؤال: أيّ أرض مطروحة للمقايضة، وما هي مساحتها؟ وهل من الممكن استعادتها؟ وغيرها من الأمور التي يصعب التنبّؤ بها جميعاً. ومع ذلك، يكاد يكون من المستحيل تخيّل موافقة أوكرانيا ولو مؤقّتاً على سيطرة روسيا على أراضٍ أكبر بكثير ممّا احتلّته قبل شباط الماضي. صحيح أنّ أوكرانيا أبدت في بعض الأحيان استعدادها للتخلّي عن طموحاتها في الانضمام إلى الناتو، والتزام الحياد، لكنّها ستصرّ أيضاً على أن يكون حياداً مسلّحاً جيّداً، وهو ما يتطلّب دعماً عسكرياً غربياً مستمرّاً، ولن تقبله روسيا على الأرجح. ومن غير المحتمل أيضاً أن تقبل روسيا عضويّة أوكرانيا في الاتحاد الأوروبي، وهي أولوية بالنسبة للرئيس الأوكراني زيلنسكي. ومن الصعب أيضاً تخيّل اتفاق موسكو وكييف على ضمانات أمنيّة خارجية لأوكرانيا.

 

نظرة بعيدة المدى

لذا يحتاج الغرب إلى استراتيجية طويلة المدى. نجحت سياسة دعم أوكرانيا، حتى الآن إلى حدٍّ كبير، وثمّة حاجة إلى عناصر جديدة. فمع تجنّب التدخّل العسكري المباشر، يجب على الولايات المتحدة وأوروبا الاستمرار في تزويد أوكرانيا بالأسلحة التي تحتاج إليها (إلى جانب المعلومات الاستخبارية، والتدريب) حتى تتمكّن من إحباط الأعمال العسكرية الروسية، واستعادة السيطرة على المزيد من أراضيها. والاستمرار في دعم هدف أوكرانيا المتمثّل في استعادة كامل أراضيها من خلال سياسة العقوبات، والدبلوماسية المفتوحة، مع التمسّك برفض الاعتراف بأيّ أرض يحاول بوتين ضمّها لروسيا. يجب الترحيب بانضمام فنلندا والسويد إلى الناتو، إمّا رسمياً كأعضاء كاملي العضوية أو كأعضاء فعليّين مشمولين بضمانات جانبية إذا واصلت تركيا معارضتها. إنّ العقوبات المفروضة على روسيا ذات أثر حاسم. لكن ما هو أكثر فعّالية من مقاطعة أوروبية نهائية للغاز الروسي؟ يجب على الدول الأوروبية تسريع تطوير إمدادات الطاقة البديلة كأولويّة لها. لكن في غضون ذلك، يمكن فرض تعرفات جمركية على النفط والغاز الروسيّين لتقليل الطلب عليهما. يتعيّن أيضاً على الدول الأوروبية إعداد خطط طوارئ استعداداً لاحتمال قيام روسيا بقطع صادرات الغاز إلى أوروبا في محاولة لتقليص شحنات الأسلحة إلى أوكرانيا أو إضعاف أثر العقوبات. يجب على الولايات المتحدة وأوروبا وشركائها في آسيا، مثل أستراليا واليابان وسنغافورة وكوريا الجنوبية، الاستمرار في تزويد أوكرانيا بالدعم المالي الذي سيعوّض عن الاضطراب الاقتصادي الحادّ الذي شهدته البلاد، ومساعدة ملايين الأشخاص الذين شرّدتهم الحرب.

إقرأ أيضاً: حرب أوكرانيا: قد تكون أكبر مفاجأة لبوتين!

علناً، على المسؤولين الأميركيين تأطير الحرب في أوكرانيا من منظور النظام، وليس الديمقراطية. دول عديدة ليست ديمقراطية، لكن يمكنها أن تتعامل مع أهميّة عدم التعرّض للغزو. ويجب أن يكون النموذج هو تحرير الكويت عام 1991، وليس غزو العراق عام 2003.

في النهاية، ما هو مطلوب على الأرجح لإنهاء الحرب، هو التغيير ليس في واشنطن، لكن في موسكو.

 

لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا

مواضيع ذات صلة

فريدريك هوف: خطوات ترسم مستقبل سوريا

حّدد الدبلوماسي والمبعوث الأميركي السابق إلى سوريا السفير فريدريك هوف عدّة خطوات تستطيع تركيا، بمساعدة واشنطن، إقناع رئيس هيئة تحرير الشام، أبي محمد الجولاني، باتّخاذها…

الرواية الإسرائيلية لتوقيت تفجير “البيجرز”

هل كان يمكن لتفجير “البيجرز” لو حدث عام 2023 انهاء الحرب في وقت أبكر؟ سؤال طرحته صحيفة “جيروزاليم بوست” التي كشفت أنّه كان يمكن لتفجير البيجرو…

فريدمان لفريق ترامب: ما حدث في سوريا لن يبقى في سوريا

تشكّل سوريا، في رأي الكاتب والمحلّل السياسي الأميركي توماس فريدمان، نموذجاً مصغّراً لمنطقة الشرق الأوسط بأكمله، وحجر الزاوية فيها. وبالتالي ستكون لانهيارها تأثيرات في كلّ…

ألكسندر دوغين: إسقاط الأسد فخّ نصبه بايدن لترامب

يزعم ألكسندر دوغين الباحث السياسي وعالم الفلسفة الروسي، الموصوف بأنّه “عقل بوتين”، أنّ سوريا كانت الحلقة الأضعف في خطّة أوسع نطاقاً لتقويض روسيا، وأنّ “سقوط…