المنطقة تغلي

مدة القراءة 5 د

ثمّة حركة غريبة في المنطقة كلّها توحي بأنّ شيئاً ما يمكن أن يحدث قريباً، خصوصاً أنّ تركيا تستعدّ لعمليّة عسكريّة في شمال سوريا. ترافقت الاستعدادات العسكريّة التركية مع ضربة قويّة وجّهتها إسرائيل إلى مطار دمشق. أدّت هذه الضربة، وهي الأولى من نوعها، إلى تدمير مدرج المطار وقسم من منشآته. سيتوقّف المطار، الذي يُستخدم في رحلات تأتي بأسلحة إيرانيّة يُرسَل بعضها إلى لبنان، عن العمل بضعة أيّام.

من الواضح أنّ توقيت الضربة مريب من جهة، ويعكس نوعاً من التصعيد العسكري تجاه إيران والنظام السوري التابع لها من جهة أخرى. كذلك يمكن اعتبار الضربة الإسرائيلية رسالة إلى “حزب الله”، وهو لواء لبناني في “الحرس الثوري” الإيراني. ليس الحزب بعيداً عن نشاطات مختلفة تمارسها إيران عبر مطار دمشق.

في الواقع، تعكس سلسلة تحوّلات يشهدها العالم والمنطقة الرغبة الواضحة في التأكيد لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران أنّ مشروعها التوسّعيّ لا يمكن أن يستمرّ إلى ما لا نهاية من جهة، وأنّه لا يمتلك أيّ أفق سياسي من جهة أخرى. عمليّاً، ومن خلال ما جرى على الأرض لا يصلح المشروع الإيراني إلّا لتدمير دول عربيّة معيّنة من داخل. إلى ما قبل فترة قصيرة، لم يكن من مشكلة لدى الغرب عموماً ما دام الأمر يتعلّق بدول مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن. وهي دول تعتقد إيران أنّها أوراق وحسب في ترسانتها التفاوضيّة مع “الشيطان الأكبر” الأميركي.

لا يوجد في العالم الغربي، أي في أميركا وأوروبا، مَن هو مستعدّ لتوقيع اتفاق جديد مع إيران بموجب شروطها

ليس صدفةً ظهور هذا التحوّل الأوروبي والأميركي قبل أيّام قليلة من طرح أربع دول مشروع قرار أمام مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة النوويّة في فيينا. طلبت أربع دول، هي الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا، من مجلس المحافظين في الوكالة إدانة إيران بسبب استمرارها في انتهاك نسب تخصيب اليورانيوم بموجب اتفاق عام 2015.

يكشف هذا التحوّل أنّ هناك يأساً من إمكان التوصّل إلى إعادة الحياة لاتّفاق صيف عام 2015 الذي وقّعته إيران في عهد باراك أوباما مع الولايات المتحدة والأعضاء الآخرين ذوي العضوية الدائمة في مجلس الأمن وألمانيا. ترجمة هذا اليأس هي دعوة إيران إلى توقيع اتفاق جديد يأخذ في الإعتبار التغيّرات التي حدثت منذ صيف عام 2015، بما في ذلك سلوك إيران في المنطقة وصواريخها الباليستيّة واحتمال اقترابها من الحصول على القنبلة النووية.

بكلام أوضح، لا يوجد في العالم الغربي، أي في أميركا وأوروبا، مَن هو مستعدّ لتوقيع اتفاق جديد مع إيران بموجب شروطها. لا يوجد حتّى مَن يريد السماع بإعادة الحياة إلى الاتفاق القديم إذا لم تلتزم “الجمهوريّة الإسلاميّة” شروطاً معيّنة، من بينها الرضوخ لكون “الحرس الثوري” باقياً على “لائحة الإرهاب” ولا أمل لديه بالخروج منها ما دامت كلّ دولة من دول المنطقة تشعر بأنّه بات يشكّل تهديداً لها. تمارس إيران هذا التهديد بشكل مباشر وغير مباشر، عبر الميليشيات المذهبيّة الإيرانية التابعة لـ”الحرس” الموجودة في العراق وسوريا ولبنان واليمن. كان آخر تعبير عن نشاط هذه الميليشيات قصفها موقعاً قنصليّاً أميركياً قيد الإنشاء في أربيل بصواريخ “كاتيوشا”. تولّى تنفيذ القصف هذا طرفٌ عراقيّ على علاقة مباشرة بـ”الحرس الثوري” الإيراني.

يبدو بوضوح أنّ المنطقة تغلي. ظهر ذلك بوضوح من خلال الخطاب الأخير للأمين العامّ لـ”حزب الله” حسن نصرالله الذي راح يتوعّد إسرائيل والعالم واليونان، عبر الدولة اللبنانيّة التي اعترف بوجودها فجأة، في ضوء تجاوز سفينة، يظنّ أنّها يونانيّة، الخط الرقم 29 في مياه جنوب لبنان.

إلى أين سيأخذ الغليان المنطقة في وقت بدأت إيران تكتشف أن ليس في استطاعتها الاستفادة من الحرب الأوكرانيّة وتداعياتها، وأنّه سيكون عليها، عاجلاً أم آجلاً، إخلاء الجنوب السوري. لا تمتلك إيران القدرة على استيعاب أن ليس مسموحاً لها استغلال أيّ انسحاب عسكري روسي من سوريا.

في النهاية، ما الذي ستفعله إيران في ضوء عجزها عن عقد صفقة مع “الشيطان الأكبر”؟ هذا السؤال سيطرح نفسه في المرحلة المقبلة بعدما حشرت “الجمهوريّة الإسلاميّة” نفسها في زاوية يصعب عليها الخروج منها، وذلك نظراً إلى أنّ إدارة جو بايدن لم تعُد تمتلك هامشاً واسعاً للمناورة مهما بلغ تعاطف المسؤول عن الملفّ الإيراني فيها (روبرت مالي) مع “الجمهوريّة الإسلاميّة”. لا يمكن تجاهل أنّ إدارة بايدن في وضع لا تُحسد عليه ولم تعُد قادرة على عقد أيّ صفقة مع إيران مع اقتراب موعد الانتخابات النصفيّة التي يُخشى أن تؤدّي إلى فقدانها الأكثريّة في مجلسَيْ الكونغرس.

يبقى لإيران خيار الرهان على وضع غير مستقرّ في إسرائيل بعدما فقدت الحكومة الحالية برئاسة نفتالي بينيت الأكثرية في الكنيست. لكنّ تجارب الماضي القريب والبعيد تشير إلى أنّ الأمن يبقى العنصر الأهمّ الذي يتحكّم بسياسات إسرائيل بغضّ النظر عن طبيعة الحكومة فيها.

إقرأ أيضاً: النظام الجزائريّ والفرصة التي أتاحتها له إسبانيا

هل لدى إسرائيل شهيّة للحرب؟ من الصعب الإجابة عن هذا السؤال في وقت لدى “الجمهوريّة الإسلاميّة” القدرة على استخدام ميليشيات متنوّعة في المنطقة، أبرزها “حزب الله” في لبنان. يستطيع الحزب، الذي يسيطر عمليّاً على لبنان، والذي يعمل وفق أجندة إيرانيّة، إلحاق أذى كبير بإسرائيل. لكنّ الوضع القائم في المنطقة سيؤدّي، على الرغم من دقّته، إلى مزيد من العقوبات يفرضها العالم على إيران بغية تفادي حرب واسعة في الشرق الأوسط والخليج. مثل هذا المنطق يقود إلى سؤال من نوع آخر: هل الوقت يخدم “الجمهوريّة الإسلاميّة” أم يزيد الوضع الداخلي الإيراني صعوبةً ويزيد من حدّة الأزمات الداخليّة التي يعاني منها نظام لم يتخلَّ يوماً عن شعار “تصدير الثورة”؟ لقد جعله هذا الشعار في هرب مستمرّ إلى خارج حدوده من دون أن يسأل نفسه عن ثمن ممارسة هذا الهرب من الواقع الداخلي الإيراني… إلى ما لا نهاية!

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…