لم أحبّ هواتف “آيفون” ولم أفهم بها يوماً. أشعر بأنّها معقّدة وأفضّل تلك التي تعمل بنظام “أندرويد” مثل “سامسونغ” وخلافه. أمس زارنا أبو موريس في المقهى بعد انقطاع على غير عادة، مصطحباً معه هاتفه الذكي الجديد “آيفون 15” الذي أرسله له ابنه موريس من كندا، وذلك بدافع “التفشيخ” على الحاضرين و”التجغيل” عليهم.
فتح أبو موريس الهاتف وبدأ يلتقط الصور داخل المقهى “خبط عشواء”: تارة يصوّر الطاولات والكراسي الخيزران، وتارة أخرى يلتقط صوراً للمارّة والسيّارات، وطوراً يتفنّن بتصوير الركاوي النحاس والنراجيل… ثمّ راح بعد ذلك يقلّب الفيديوهات بصوت مرتفع ومزعج، صعوداً ونزولاً، مرّة على “تيك توك” ومرّة أخرى على “فيسبوك” وخلافهما…
حطّ أحد الفيديوهات على حديث لرئيس حزب “الكتائب” سامي الجميّل في أحد الحوارات السياسية التي أجراها أخيراً وهو يصرخ بصوته الرفيع ويقول: “نريد لهم أن يعيشوا… نريد لهم أن يحبّوا الحياة… وأن يتعلّموا”، متوجهاً لجمهور الحزب.
أقفل أبو موريس الهاتف قاطعاً حديث الجميّل، ثمّ قال: “إيه والله يا شيخ سامي… بدك مين يفهم”، ثمّ راح يتلفّت يميناً ويساراً كمن يريد أن يشتري المشكل مشترى.
لاقاه أبو محمود في منتصف الطريق وقال له: “لك شو هالكلام العنصري يا أبا موريس؟ من عقله عم يقول هيك؟ وأنت من عقلك ماشي بهالسرديّة؟… كأنّو الشيخ سامي مش ضاهر برّا بكفيا بحياته!”.
ردّ أبو محمد على النغمة نفسها: “هههه والله تقول الشيخ سامي بعدو بالسبعينيات… يا حبيبي شو حبّ الحياة ما حبّ الحياة؟ عم يحكينا بالتعليم؟ إيه إذا نحنا منسحب تلاميذنا من مدارسكم وإرساليّاتكم وجامعاتكم يا أبو موريس بتفلّس كلّها وبتسكّر… خدنا بحلمك شوي إنت والشيخ سيميه!”.
حطّ أحد الفيديوهات على حديث لرئيس حزب “الكتائب” سامي الجميّل في أحد الحوارات السياسية التي أجراها أخيراً وهو يصرخ بصوته الرفيع ويقول: “نريد لهم أن يعيشوا… نريد لهم أن يحبّوا الحياة… وأن يتعلّموا”
لم يكتفِ أبو محمد بهذا القدر من “التكييل”، بل أكمل ضارباً في العمق: “وليه كلّ المطربين من عنّا. كلّ المغنّين والمؤثّرين على السوشيل ميديا من عنّا. وليه حتى ميا خليفة من عنّا… إنتو عندكم ميا خليفة يا جماعة الحياة؟… أكيد لأ. قال حبّ الحياة قال!”.
أبو سمير كان يراقب سير النقاش المتصاعد عن بُعد، ولم يتدخّل في البداية. لكنّه قرّر أن يدلي بدلوه هو الآخر، فانتفض وقال: “قسّموها وخلصونا… وكلّ واحد يروح بحال سبيله. يا أخي تعبنا تعبنا. نحنا شو علاقتنا بكلّ يلّي عم يصير بغزة وغير غزة؟”.
هنا دخل أبو زياد على الخطّ موجّهاً سهامه صوب أبي سمير: “قسّموها؟ يعني حلّيتها يا فِطِن؟ وليه يا حبيبي إنتو مفصومين (أي مصابون بالفصام)، إنتو نفختوا راسنا على التواصل الاجتماعي مسبّات وتزريك، سايقين الناس كلّها بعصا واحد، وبتقولوا قسّموها.. قسّموها.. قسّموها، وحكيمكم بالوقت نفسه عم يقول نحنا مع الطائف ونحنا ضدّ التقسيم! طيّب نحنا مين منصدّق؟ منصدقك إنت ويلّي على طرزك أو منصدّق زعيمك يا غرينغو؟”.
ثمّ ساد هرج ومرج في المقهى، لكنّ الطريف أنّ كل هذا ينتهي غالباً بتطوّع أحدهم من أجل تهدئة النفوس، فيصرخ بالموجودين قائلاً: “خراس إنت وِيّاه… المطاليب عليّي اليوم”، على طريقة كل الحلو في لبنان، فيُفضّ الخلاف ويعود كلّ منهم إلى قواعده سالماً ليغنم فنجان قهوة أو شاي أو ربّما نَفَساً عجمياً إضافياً.
أنا لم أتدخّل هذه المرّة. كنت مصغياً بعمق، أسمع كلّ كلمة تصدر مِن فِيهِ كلّ واحد من الحاضرين وأزيّنها بميزان من ذهب لمراقبة ذاك الانقسام الذي عاد وتملّك القهوة (small scale) منذ 7 أكتوبر إلى اليوم، فقَلَبَ موازين كثيرة سادت لعقود… غشيم كلّ مَن لم يرَها.
لا يفهم أحبّة الشيخ سامي ومريدوه وكذلك أحبّة غريمه “الحكيم”، أنّ كلّ القضايا العربية مرتبطة بنا وجدانياً، ولا يمكننا ممارسة ذاك الفصل الذي يطلبونه كأنّه “كبسة زرّ” أو Delivery بين ما هو عربي وما هو وطني، لأنّ الأمرين لدينا سيّان. هي هكذا منذ البداية، مزروعة في الجينات Built-in (خطأ ما خطأ لا أعرف وآخر همّي).
بل الأنكى من هذا كلّه أنّهم حينما يغضبون وتُثار غرائزهم، لا يميّزون بين من هو معهم ممّن هو ضدّهم… “إنو قسّموها يابا”، ثمّ صلّى الله وبارك.
لا يفكّرون إلى أين يذهب المحايدون أو القريبون منهم أو من هم فعلاً في صفّهم السياسي، مثل من هم كحالاتنا، فنمسي كالمثل البيروتي القائل: “لا مع ستّي بخير ولا مع سيدي بخير؟”.
إقرأ أيضاً: حكومة بتسوى “مايكرويف”
مَرّت في بالي تلك الأفكار بينما كان الصخب يخفت في المقهى مع بداية نزول المشاريب A gogo… ثمّ وقفت، فلففت النربيج حول الأرجيلة كالعادة، وخرجت من دون أن ألقي السلام على أحد.
عدت إلى البيت مستذكراً جملة واحدة من مسرحية زياد الرحباني “فيلم أميركي طويل”، قال فيها حينما علا “الصخب الطائفي” بين أترابه: “وليه ما كلكن إخوة يا إخوات الهيك وهيك”.
*هذا المقال من نسج خيال الكاتب
لمتابعة الكاتب على تويتر: abo_zouheir@