إزاء دعوات الولايات المتحدة الأميركية المتكرّرة إلى أن تأخذ السلطة الوطنية الفلسطينية دورها في إدارة قطاع غزة بعد وقف الحرب، لم يعد السؤال يقتصر على مدى جدّية واشنطن في هذا الشأن، ما دامت تدعم الهدف الواهم بقضاء الجيش الإسرائيلي على حركة “حماس”، بل تعدّى ذلك إلى سلسلة من الأسئلة، بينها ما يدور حول قدرة السلطة نفسها على توحيد الموقف مع “حماس” كي تتمكّن من مواجهة الآثار الهائلة للحرب. فإرث الخلافات بين الأخيرة وبين حركة “فتح” والسلطة كبير وعميق منذ عام 2007.
برزت بعض مظاهره في الأسابيع الماضية إلى العلن، فيما عناصره الكامنة وفي الغرف المغلقة أشدّ وطأة، بحيث يمكن القول إنّ من مضاعفات الحرب الإسرائيلية على غزة تحكُّم الخلافات والانقسامات بين أطياف كلّ من فريقَيها، إسرائيل والجانب الفلسطيني، بغموض المرحلة التي ستليها.
*******
قبل زهاء سنة التقى الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال زيارة لإحدى الدول العربية مسؤولاً لبنانياً صادف أن كان بدوره في زيارة لتلك الدولة، وتبادلا الحديث حول ما آلت إليه أوضاع الأراضي الفلسطينية المحتلّة وأوضاع السلطة بالعلاقة مع إسرائيل. ممّا قاله أبو مازن للمسؤول اللبناني: “يبدو أنّني سأصبح “حماس”… الإسرائيليون لا يتركون مجالاً لأيّ أمل. لا يريدون أيّ تسوية ويقومون بكلّ شيء لتقويض السلطة ولا يتركون مجالاً للسلام…”.
في اعتقاد الرئيس عباس أنّه في كلّ مرّة يتمّ التوصّل إلى تفاهمات على إنهاء الانقسام الفلسطيني تتنكّر له قيادة “حماس”، وهو سئم على ما يبدو من اتفاقات إنهاء الانقسام التي لا تنهيه، في وقت يعتبره نتانياهو “إرهابياً (مثل حماس) بربطة عنق”
يأس أبي مازن من إسرائيل وأميركا؟
كان الرجل يعبّر عن إحساس باليأس من سلوك قادة تل أبيب حيال القدس والضفّة الغربية وغزة بحيث يساهم صعود المتطرّفين المتديّنين في الدولة العبرية، في نموّ التطرّف في صفوف الفلسطينيين. بلغ به السأم من عدم اكتراث الأميركيين بوجوب وضع حدّ لنموّ الاستيطان الإسرائيلي ومصادرة الأراضي واقتحامات المسجد الأقصى ومحاولات التعدّي على حرمته بحماية أجهزة الأمن، أن قال هذه العبارة للدلالة على أنّ السلام بعيد وأنّ وعود واشنطن الخائبة بتحقيقه بقيت سراباً، إضافة إلى أنّ إسرائيل كانت بدأت خطوات تهدئة مع “حماس” تسمح بزيادة إجازات العمل لفلسطينيّي غزة في أراضيها، وبتسهيلات للتحويلات المالية إلى القطاع من ضمن تصوّر إسرائيلي يقضي بإراحته اقتصادياً مقابل خفض التوتّرات الأمنية.
ليس معروفاً عن أبي مازن أنّه معجب بـ”حماس” حتى يقول هذا الكلام. لكنّ المعنى المجازي الذي أراد القيادي التاريخي في حركة التحرير الوطني الفلسطيني والثورة الفلسطينية منذ ستينيات القرن الماضي، التعبير عنه، يرمز إلى ما آلت إليه أوضاع السلطة الوطنية الفلسطينية التي يطالب الأميركيون الآن بأن تتولّى إدارة قطاع غزة في اليوم التالي للحرب.
كان أبو مازن أحد شركاء أبي عمّار في تأسيس “فتح” والكفاح المسلّح الفلسطيني، ورفيق أبي جهاد خليل الوزير وأبي أياد صلاح خلف وكمال عدوان وأبي يوسف النجار، ثمّ مهندس اتفاقات أوسلو في 1993، التي اعتبر أنّ إسرائيل أسقطتها بالقوّة، ثمّ تحمّل وزر نهجه السلمي بهدف بلوغ الدولة المستقلّة، ولم يترك يوماً العصبية الفتحاوية. إلا أنّ الشيب والتجارب أخذا منه ملَكة الصبر، فبات يملّ الانتظار ومناورات الدول الهادفة إلى تصفية القضية وقضاء بنيامين نتانياهو على السلطة الوطنية كمكسب حصلت عليه منظمة التحرير على طريق قيام الدولة المستقلّة.
بين حماية الشعب… وانتقاد “حماس”
بعد “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي تدرّج موقف الرئيس عباس كالآتي:
1- الرئيس الفلسطيني الذي لم يكن يوماً متحمّساً لمثل هذه العمليات، اكتفى في اليوم نفسه بالتأكيد على “حماية الشعب الفلسطيني وحقّه في الدفاع عن نفسه في مواجهة إرهاب المستوطنين وقوات الاحتلال”.
2- لكنّه بعد أسبوع أعلن “رفض الممارسات التي تتعلّق بقتل المدنيين أو التنكيل بهم من الجانبين لأنّها تخالف الأخلاق والدين والقانون الدولي”. جاء ذلك في ظلّ الضغوط الغربية، ولا سيما الأميركية، المطالبة بإدانة ما قامت به “حماس”. أدلى بتصريحه بعد لقائه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في عمّان. وهو ما أثار عاصفة من الانتقادات له ذهبت بعيداً على مواقع التواصل الاجتماعي بتخوينه والهجوم على تنسيق السلطة الأمنيّ مع إسرائيل.
3- عقب يومين نسبت إليه وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا) الرسمية قوله خلال اتصال مع الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو إنّ “سياسات وأفعال حماس لا تمثّل الشعب الفلسطيني”، ثمّ عادت الوكالة فعدّلت هذا النص ونسبت إليه قوله إنّ “سياسات وبرامج وقرارات منظمة التحرير الفلسطينية هي التي تمثّل الشعب الفلسطيني بصفتها الممثّل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، لا سياسات أيّ تنظيم آخر”.
في معطيات الأوساط الفلسطينية المواكبة لمسار الاتصالات الغربية والأميركية مع الرئيس الفلسطيني أنّ الأخير قال كلاماً حادّاً خلالها غير مكترث بالضغوط عليه، محمّلاً المسؤولية لواشنطن عمّا آلت إليه القضية الفلسطينية
أبو مازن والموفدون الأميركيّون
لا يحجب ذلك مواقف عباس ورموز السلطة الفلسطينية و”فتح” ضدّ الحرب الإسرائيلية، وفي الردّ على فائض الانحياز الأميركي للمجزرة التي ترتكبها حكومة نتانياهو في غزّة والضفة الغربية:
– أبلغ أبو مازن بلينكن في مقابل تشديد الأخير على إدانة “حماس” بقوله له: “أنتم مسؤولون عن “حماس” وعزّزتم بتدابيركم سلطتها ودورها في غزة”. وهو كان يشير بذلك إلى خطة بنيامين نتانياهو إعطاء تسهيلات للحركة لإضعاف السلطة الفلسطينية من أجل تبرير رفض تجديد مفاوضات السلام معها. وحسب بعض الأوساط الفلسطينية أنّ أبا مازن اعتبر أنّه حين تجاوزت الأحداث بعد طوفان الأقصى قدرة أميركا على ضبط الأمور واللعب على التناقضات الفلسطينية، باتت تطالب بإدانة “حماس”.
– قال لبلينكن ثمّ لمستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان إنّه “لا فائدة من كلّ الأحاديث عمّا بعد الحرب قبل وقفها. أوقفوا إطلاق النار في غزة والضفة حيث يجب منع مصادرة الأراضي وتوسيع الاستيطان، وليتمّ تحرير قوافل المساعدات الإنسانية الموجودة في رفح لتدخل إلى القطاع وتوفّر المياه والأدوية ومراكز الإيواء. وما لم توقفوا النار فأنتم شركاء في الإبادة الجماعية التي يتعرّض لها الفلسطينيون.
– أبلغ كلّاً من بلينكن ثمّ فيل غوردن مساعد نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس، الذي زاره مطلع الشهر الجاري ليناقش معه أفكار “اليوم التالي” بعد الحرب وتولّي السلطة الفلسطينية مسؤولية غزة، أنّ “الحلّ هو بالدولتين ويتطلّب حصول دولة فلسطين على عضويّتها الكاملة في الأمم المتحدة بقرار من مجلس الأمن، وعقد مؤتمر دولي للسلام من أجل توفير ضمانات دولية وجدول زمني للتنفيذ، وتولّي كامل المسؤولية عن كامل الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة”.
ماذا عن الوحدة الفلسطينيّة؟
في معطيات الأوساط الفلسطينية المواكبة لمسار الاتصالات الغربية والأميركية مع الرئيس الفلسطيني أنّ الأخير قال كلاماً حادّاً خلالها غير مكترث بالضغوط عليه، محمّلاً المسؤولية لواشنطن عمّا آلت إليه القضية الفلسطينية.
ترى هذه الأوساط أنّ إدارة الرئيس إدارة جو بايدن تناور وتراوغ في حديثها عن حلّ الدولتين، وأنّها تخاطب بذلك أوساطاً في الحزب الديمقراطي أخذت تلومها على دعمها الأعمى لإسرائيل، وتستخدمه وسيلة من أجل خوض حملتها المقبلة من أجل تغيير الحكومة الإسرائيلية وللتخلّص من نتانياهو بحجّة أنّه يعيق استئناف محادثات السلام.
إقرأ أيضاً: اجتماع ثلاثيّ في الرياض… والسنوار في سيناء؟!
بموازاة ذلك، ومع مظاهر استمرار الخلاف الفلسطيني الداخلي، لا تتوقّع الأوساط المعنيّة بالاتصالات في هذا الصدد تطوّراً بارزاً. فمقابل بعض مواقف الرئيس الفلسطيني حيال “حماس”، التي جرى استدراكها، ثمّة مواقف لا تقلّ حدّة من بعض قادتها حيث وصف القيادي فتحي حماد أبا مازن بـ”الخائن”، فيما طالب قادة “فتح” بإدانة رسمية لتصريحاته لم تصدر بعد.
في المقابل أصرّ أبو مازن، عند تكليفه عضو اللجنة المركزية في حركة “فتح” عزّام الأحمد باستئناف الحوار مع “حماس”، على أن تنتهي أيّ اتصالات معها بورقة مكتوبة وموقّعة تنصّ على اعتراف قيادتها بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثّلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني والتقيّد بكلّ التزاماتها والاتفاقات التي عقدتها وصولاً إلى السلام مع إسرائيل وفق قرارات الشرعية الدولية، بما فيها الاعتراف بوجود الدولة العبرية، من دون مواربة.
في اعتقاد الرئيس عباس أنّه في كلّ مرّة يتمّ التوصّل إلى تفاهمات على إنهاء الانقسام الفلسطيني تتنكّر له قيادة “حماس”، وهو سئم على ما يبدو من اتفاقات إنهاء الانقسام التي لا تنهيه، في وقت يعتبره نتانياهو “إرهابياً (مثل حماس) بربطة عنق”.