سمعت والدة رفيق إبني “مالك” في المدرسة تقول: “بيروت عندي في البيت”! (chez moi c’est Beyrouth). سألتها ماذا تعني؟ أجابت أنّ الفوضى تعمّ البيت. شككت في صحّة هذا التشبيه، أو “المثل الشعبي”، خاصة أنّ المرأة إستونية من أصول روسيّة، ترعرت في إيرلندا وعاشت في إسبانيا قبل أن تتزوّج فرنسيّاً. قمت بالبحث عنه. فوجدت شرحاً له في زاوية مقال صدر لمناسبة مئوية “لبنان الكبير” في “لو موند ديبلوماتيك”، وهو يعني “الفوضى والدمار”.
لودريان الخبير في العالم العربيّ
بعد زيارة البطريرك الماروني بشارة الراعي باريس (30 أيار) عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وزير خارجيّته السابق جان إيف لودريان موفداً خاصّاً إلى لبنان (7 حزيران). كان الرجل يرغب بالترشّح لرئاسة “معهد العالم العربي” في باريس. فهو خبير بالعالم العربي ولديه فيه شبكة علاقات كبيرة بناها خلال وجوده في وزارة الدفاع (في عهد فرانسوا هولاند 2012-2017) وفي وزارة الخارجيّة (في ولاية ماكرون الأولى 2017-2022). وقد اشتُهر في الوزارتين بإنجاز صفقات أسلحة كبيرة، بخاصّة مع الدول العربيّة، وهو ما جعل فرنسا في المرتبة الثالثة عالمياً (بعد الولايات المتحدة الأميركيّة وروسيا) بين الدول المصدّرة للأسلحة. حتى إنّ أحد المستشارين في وزارة الخارجية الفرنسيّة قال لي عند تعيينه وزيراً للخارجية في حكومة إدوار فيليب الشبابيّة والتجديد له في حكومة جان كاستكس: “ماكرون يريد بيع أسلحة”.
تضمّنت زيارة لودريان الاستطلاعية أسئلة عن كيفية الخروج من الأزمة والمرحلة المقبلة، بحسب ما أكّدت مصادر شاركت في أحد الاجتماعات التي عقدها الموفد الفرنسيّ
زيارة بعد لقاء ماكرون – بن سلمان
طلب الرئيس الفرنسيّ من موفده زيارة بيروت بعد زيارة وليّ العهد السعوديّ باريس، علّه يُقنع ضيفه بتليين موقفه (الحياد السلبيّ) من الأزمة اللبنانيّة. كما انتظر لودريان انعقاد جلسة 14 حزيران “الحامية” كي يقوم بزيارته الأولى لبيروت. وانتظر أن تبرد المواقف التي رافقتها وتبعتها. كان لافتاً تحفّظ الدبلوماسيّة الفرنسيّة على طبيعة الزيارة. حتى إنّ السفارة الفرنسية في لبنان لم توزّع جدول مواعيد لقاءات الموفد الفرنسيّ. ومعروف أنّه في فرنسا ينظّم الفرنسيون زياراتهم ولقاءاتهم واستحقاقاتهم قبل أشهر مع النقطة والفاصلة. أمّا في بيروت فينظّمون، لكنّهم يتركون مجالاً للتعديل في الدقائق الأخيرة: “إنّها بيروت”.
أسباب الزيارة الاستطلاعيّة
عشيّة زيارة الموفد الفرنسي عُلم أنّ الزيارة استطلاعية ولا تحمل مبادرة في شأن الانتخابات الرئاسيّة لأسباب عدّة:
1- إنّها الزيارة الأولى للدبلوماسي الفرنسي موفداً رئاسياً مهمّته مساعدة لبنان على الخروج من أزمته. صحيح أنّه يعرف جيّداً الواقع اللبنانيّ. وكان أوّل من حذّر من الانهيار و”اندثار لبنان”. ويعرف جيّداً الطبقة السياسيّة فيه. ولكن كان عليه الاستماع إلى الأطراف كلّها في ما خصّ الاستحقاق – المشكلة.
2- تراجع فرنسا، أو أقلّه فرملة تبنّيها لترشيح سليمان فرنجية وتسويقها لتسوية فرنجية – نواف سلام. يؤكّد مشاركون في الاجتماعات أنّ الموفد الفرنسي لم يذكر اسم فرنجية مباشرةً ولا تلميحاً.
3- بروز واقع جديد في الداخل اللبنانيّ بعد اتّفاق المعارضة مع التيار الوطنيّ الحرّ وبعض نواب التغيير على ترشيح جهاد أزعور.
4- حصول أزعور، في جلسة الأربعاء 14 حزيران، على أصوات أكثر من تلك التي نالها فرنجية (59 مقابل 51). علماً أنّ نبيه برّي لم يحسب ورقة من المرجّح أنّها كانت لأزعور كي لا يحصل على 60 صوتاً.
استطلاع للتوافق بالحوار
تضمّنت زيارة لودريان الاستطلاعية أسئلة عن كيفية الخروج من الأزمة والمرحلة المقبلة، بحسب ما أكّدت مصادر شاركت في أحد الاجتماعات التي عقدها الموفد الفرنسيّ.
صحيح أنّ لودريان آتٍ من دولة حيث الدستور “مقدّس”، والقانون “مقدّس”، والانتخابات “مقدّسة”، ونتائجها “مقدّسة”، والحوار هو “الخبز اليومي” للحياة السياسيّة، لكنّ الرجل ينتمي إلى المدرسة الواقعية في السياسة، وهو يدرك أنّ في لبنان الديمقراطية ليست سوى فقرة في الدستور الذي أصبح، في زمن “الشيعيّة السياسيّة”، مجرد وجهة نظر. لذلك ذكر في لقاءاته مع المسؤولين كلمة consensus (توافق) أكثر من مرّة، بحسب المصادر. وبدت أسئلته دعوة غير مباشرة إلى الحوار للخروج من عنق الزجاجة. ولكنّها أسئلة تثير العديد من التساؤلات عن شكل الحوار؟ ومواضيعه؟ والمشاركين فيه؟ وهل من أحد سيرعاه؟ ومن سيضمن تطبيقه؟… تساؤلات مشروعة بعد تجارب الحوارات العديدة التي عقدها اللبنانيون منذ عام 2005 ولم تؤدِّ المطلوب منها، خاصّة أنّها تجري في ظلّ خلل كبير في موازين القوى. وهذا الخلل لا يعود إلى قوّة سياسيّة – شعبيّة لطرف ما، إنّما بسبب سلاح الحزب الحاضر على كلّ طاولة حوار والقادر على إفشال أيّ من مقرّراتها. تراجُع الحزب عن “إعلان بعبدا” (إتفاق على طاولة حوار في قصر رئاسة الجمهورية خلص إلى “نأي لبنان بنفسه”) ودعوة محمد رعد كلّ من ينادي به إلى “أن يغليه ويشرب مياهه”، خير دليل على مصير أيّ حوار وأيّ اتّفاق مع الحزب، الذي “لحس توقيعه” على الإعلان وذهب إلى سوريا ليقاتل دون رأي أحد من اللبنانيين.
بعد نهاية زيارته سيقدّم الموفد الفرنسي لرئيسه تقريراً يمكن اختصاره بتعبير: “c’est Beyrouth”. فوضى سياسيّة وسياسيون يدمّرون البلاد. ولا أمل كبير بالخروج من الأزمة سريعاً
كلام بيروت
ما سمعه الموفد الفرنسي في بيروت أكّد له مرّة جديدة “أنّها بيروت”.
تكلّم نبيه برّي عن حرصه على العملية الدستوريّة في انتخاب رئيس للجمهوريّة، فيما نوّابه يعطّلون نصاب الدورة الثانية من كلّ جلسة انتخاب.
تباهى نجيب ميقاتي أمام الموفد الفرنسيّ بإنجاز حكومته كلّ القوانين اللازمة للإصلاحات المطلوبة. ولكنّها لم تقُم بأيّ إصلاح.
أكّد جبران باسيل لضيفه الفرنسي انفتاحه على كلّ الأطراف ورفضه لفراغ في موقع رئاسة الجمهوريّة وسعيه إلى انتخاب رئيس يُكمل الإصلاحات التي بدأها ميشال عون. فيما هو مكروه أكثر من كلّ السياسيين، ليس من الطبقة السياسيّة فقط، وإنّما من الشعب اللبنانيّ أيضاً. وفريقه السياسيّ كان السبب في الفراغات المتكرّرة في موقع رئاسة الجمهوريّة، وهو أبرز المعرقلين للإصلاح، وفي مقدَّمه تشكيل هيئة ناظمة لقطاع الكهرباء.
تكلّم الحزب عن انفتاحه على الأطراف واستعداده للحوار وحرصه على العملية الديمقراطية وعلى استقرار البلاد والعيش المشترك فيها… في حين أنّه يهدّد اللبنانيين بمئة ألف مقاتل وبمئة ألف صاروخ، وهو إيراني حتى النخاع، وأجندته إيرانيّة، وهو مَن انقلب على الحوارات السابقة ونتائجها.
أصرّ حزبا القوّات والكتائب على انتخاب رئيس في المجلس النيابيّ، على الرغم من إدراكهما استحالة الوصول إلى نتيجة في ظلّ الواقع الراهن.
سمع الموفد الفرنسي من نوّاب مجتمعين في تكتّلات سياسيّة حرصهم على “لبنان الجديد” في حين أنّ مصالح العديد منهم الخاصّة وتجاراتهم غير الشرعية عبر المعابر غير الشرعيّة تتحكّم بخياراتهم السياسيّة والانتخابيّة.
ربّما سيُضاف إلى ما يعرفه الدبلوماسي الفرنسي العتيق عن “بيروت”، ما سيسمعه من “التغييريين”. فهؤلاء الرافضون للطبقة السياسيّة ولسلاح الحزب منقسمون بين متحالفين مع بعضٍ منها وداعمين بأدائهم وتصويتهم لمرشّح الثنائي الشيعيّ.
إقرأ أيضاً: فرنسا ولبنان…. مشكلة سياسة لا مبعوثين!
بعد نهاية زيارته سيقدّم الموفد الفرنسي لرئيسه تقريراً يمكن اختصاره بتعبير: “c’est Beyrouth”. فوضى سياسيّة وسياسيون يدمّرون البلاد. ولا أمل كبير بالخروج من الأزمة سريعاً.
على الرغم من الفوضى في بيروت والعجز الفرنسيّ من دون دعم عربيّ وأميركيّ وتسهيل إيرانيّ، سيستمرّ ماكرون في محاولاته لإيجاد حلّ للمأزق اللبنانيّ. وسيزور لودريان بيروت مرّة ثانية وثالثة… فمصالح فرنسا الجيوسياسيّة في الشرق الأوسط والبحر المتوسّط تحتّم ذلك.
c’est Beyrouth.