إسرائيل تنتخب بعد غزّة: انعدام الثّقة بالقيادات

مدة القراءة 7 د

أما تزال إسرائيل قادرة على إنتاج قيادة تُوحِّد الداخل المنقسم بعد حربٍ كشفت هشاشة أسطورتها الأمنيّة؟ هل تكفي صناديق الاقتراع لترميم الشرخ العميق بين المجتمع والسلطة السياسيّة؟ ما الذي تعنيه عودة نفتالي بينيت إلى المشهد؟ هل يُشكّل بديلاً حقيقيّاً لبنيامين نتنياهو الذي تراجعت الثقة به حتّى داخل معسكره؟ هل تملك الانتخابات المقبلة القدرة على إخراج إسرائيل من مأزقها البنيويّ أم تكون محطّة جديدة في دورةٍ سياسيّة مغلقة؟

 

بين تراجع الثقة برئيس الحكومة الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو وصعودٍ خافتٍ للخليفة المحتمل رئيس الحكومة الأسبق نفتالي بينيت، تستعدّ إسرائيل لجولةٍ انتخابيّة جديدة يُتوقّع أن تُعمّق مأزقها السياسي بدل أن تخرج منه.

ليست نتائج استطلاع صحيفة “معاريف” الأخيرة أرقاماً أو توزّعاً للأصوات وحسب، بل تكشف عن تصدّعٍ في البنية العميقة للوعي الإسرائيليّ بعد حربٍ خلّفت في المجتمع جروحاً مفتوحة، وأفقدت مؤسّساته السياسيّة والعسكريّة قدرتهما على الإقناع.

لم يعُد السؤال اليوم في إسرائيل: من سيفوز؟ بل: أما يزال في إمكان أحد أن يحكم هذا البلد الذي يمرّ بأزمة قيادة وسيطرة الرؤية الأمنيّة على الرؤية السياسيّة المستقبليّة؟

حرب غزّة وانكسار الأسطورة

اللافت في نتائج الاستطلاع أنّ 13% من الإسرائيليّين فقط يعتقدون أنّ دولتهم حقّقت “انتصاراً كاملاً” في حرب غزّة، مقابل 46% يرون أنّ النتيجة كانت “نصف انتصار”، فيما يعتبر 35% أنّ إسرائيل لم تنتصر إطلاقاً.

ليست هذه الأرقام مؤشّراً انتخابيّاً، بل هي مرآةٌ لتخبّط غير مسبوق. إذ أظهرت الحرب أنّ الردع الإسرائيليّ لم يعُد مضموناً، وأنّ ثقة الجمهور بقدرة جيشه على الحسم تآكلت كما لم يحدث منذ تأسيس الدولة العبريّة.

تبدو الانتخابات المقبلة أشبه بمرآةٍ لأزمةٍ وجوديّةٍ عنوانها الهويّة الإسرائيليّة منها بمحطّة ديمقراطيّة عاديّة

في بلدٍ قامت هويّته على فكرة “الانتصار الدائم”، يُعدّ الشكّ في النصر شكّاً في الذات والوجود. كلّ ما شكّل أساس الرواية الإسرائيليّة، من أسطورة الجيش الذي لا يُقهر إلى الإيمان المطلق بالقدرة على السيطرة، بات اليوم موضع تساؤل، خصوصاً بعد تراجع الثقة بالقيادة السياسيّة الحاليّة، التي أخضعت استمرار الحرب في غزّة لحسابات المصالح الشخصيّة وحماية الائتلاف الحكوميّ على حساب المصالح الاستراتيجيّة لإسرائيل.

إنّ غياب الثقة بالقيادة الحاليّة يترافق مع الغموض الذي يكتنف المشهد السياسيّ المقبل وصلاحيّة الخيارات بعد نهاية حرب غزّة.

نتائج الاستطلاع: لا أغلبيّة لأيّ ائتلاف

أظهر الاستطلاع أنّ حزب الليكود بزعامة نتنياهو سيبقى الحزب الأكبر بـ26 مقعداً، لكنّه عاجز عن تشكيل حكومة. حتى مع أحزاب اليمين الدينيّ والقوميّ، لا يتعدّى مجموع مقاعده 52 مقعداً، أي أقلّ بستّة مقاعد من الحدّ المطلوب للأكثريّة البرلمانيّة.

إسرائيل

في المقابل، يأتي نفتالي بينيت بحزبه الجديد “بينيت 2026” في المرتبة الثانية بـ20 مقعداً، وهي عودة لافتة بعد سنوات من الغياب. لكنّها لا تكفي لتأليف حكومة، فحتّى مع تحالفاته المحتملة لن يتجاوز ائتلافه 58 مقعداً.

بهذا المعنى، تتّجه إسرائيل إلى كنيست بلا أكثريّة، وإلى حلقة مفرغة من الانتخابات المتكرّرة التي أنهكت الناخبين وأرهقت النظام السياسي منذ عام 2019.

تفكّك المعسكرات: سقوط الوسط وانكماش اليمين

يكشف الاستطلاع عن تآكلٍ واسعٍ في معسكرات السياسة الإسرائيلية. حزب “أزرق أبيض” بزعامة بيني غانتس يتلاشى تقريباً، إذ يعجز عن تجاوز نسبة الحسم 3.25%، فيما يتراجع حزب “يوجد مستقبل” بزعامة يائير لابيد إلى 7 مقاعد فقط، بعدما كان قبل عامين أبرز أركان الحكومة الائتلافيّة التي واجهت نتنياهو وسياساته.

يحصل اليسار الصهيونيّ، الممثَّل بتحالف “الديمقراطيّين” (“العمل” و”ميرتس” برئاسة الجنرال المتقاعد يائير غولان)، على 11 مقعداً فقط، وهو ما يؤكّد استمرار تراجعه أمام صعود التيّارات القوميّة والدينيّة.

لا تُختصر أزمة إسرائيل اليوم في غياب أكثريّة برلمانيّة، بل في فقدان الثقة والشرعيّة السياسيّة والمعنويّة للنخب الحاكمة

أمّا اليمين فليس أفضل حالاً:

− “الصهيونيّة الدينيّة” بزعامة بتسلئيل سموتريتش تهبط إلى ٤ مقاعد.

− “قوّة يهوديّة” بقيادة إيتامار بن غفير تحصد 7 مقاعد.

− “شاس” و”يهدوت هتوراه” يحافظان على 7 و8 مقاعد على التوالي.

بالنتيجة، لم يعُد اليمين الإسرائيليّ جبهة موحّدة، بل فسيفساء من التيّارات المتناحرة، تتقاطع فقط عند الخوف من الآخر أكثر ممّا تتوحّد على رؤية أو برنامج.

بينيت عالق بين الطّموح والعزلة

تعبّر عودة نفتالي بينيت عن حنينٍ شعبيٍّ إلى البديل أكثر ممّا تعبّر عن قناعةٍ بقدرته على القيادة. الرجل الذي أُطيح به قبل ثلاث سنوات بعد تجربة ائتلاف هشّ، يستفيد اليوم من تآكل صورة نتنياهو، لكنّه يبقى محاصَراً سياسيّاً. إذ إنّ اليمين الديني لا يثق به بسبب تحالفه السابق مع اليسار والعرب، واليسار يرفضه لخطابه المحافظ، والوسط يراه نسخةً “ملطّفة” من نتنياهو.

من هنا، قد يتحوّل بينيت إلى “بيضة القبّان” في أيّ ائتلاف طارئ، من دون أن يمتلك قدرة حقيقيّة على جمع الأطراف المتنازعة أو إعادة تعريف المشروع الإسرائيليّ.

ما وراء الأرقام: أزمةُ شرعيّة لا أزمةُ مقاعد

في العمق، لا تُختصر أزمة إسرائيل اليوم في غياب أكثريّة برلمانيّة، بل في فقدان الثقة والشرعيّة السياسيّة والمعنويّة للنخب الحاكمة. المجتمع الإسرائيلي الذي عاش طويلاً على يقين “الانتصار الدائم”، وجد نفسه بعد حرب غزّة أمام دولةٍ مرتبكة، وجيشٍ متعب، وقيادةٍ عاجزة عن صياغة رؤية وطنيّةٍ مقنعة.

الاحتجاجات ضدّ نتنياهو، والانقسامات بين المؤسّسة الأمنيّة والمؤسّسة السياسيّة على إدارة الحرب وأهدافها، وتراجع الاقتصاد في قطاعات التكنولوجيا والسياحة، كلّها مؤشّرات إلى تآكل العقد الاجتماعي الإسرائيليّ القائم على معادلة: “الأمن مقابل الولاء”.

تبدو اليوم هذه المعادلة مهدّدة بالسقوط، وحين يضعف الأمن، ويتفكّك الإجماع، وتُصاب القيادة بالجمود أو الرهان على الأوهام، يصبح النظام كلّه في مواجهة سؤال الوجود نفسه.

لم يعُد اليمين الإسرائيليّ جبهة موحّدة، بل فسيفساء من التيّارات المتناحرة، تتقاطع فقط عند الخوف من الآخر

إسرائيل في زمن ما بعد اليقين

تبدو الانتخابات المقبلة أشبه بمرآةٍ لأزمةٍ وجوديّةٍ عنوانها الهويّة الإسرائيليّة منها بمحطّة ديمقراطيّة عاديّة. لا نتنياهو قادر على استعادة شرعيّته التي تآكلت، ولا بينيت قادر على تقديم بديلٍ حقيقيّ، ولا المعارضة قادرة على توحيد صفوفها والاتّفاق على رؤية موحّدة.

بهذا المعنى، تتّجه إسرائيل إلى جمودٍ طويل الأمد تتناوب فيه الأحزاب على السلطة من دون تغييرٍ جوهريّ في المسار، ويتعمّق فيه الشرخ بين المجتمع والطبقة السياسيّة، وبين القيادة والواقع.

إقرأ أيضاً: كوشنر: واشنطن تدخّلت لانقاذ اسرائيل من نفسها

إنّها إسرائيل ما بعد غزّة: دولةٌ تسير بدون رؤية استراتيجيّة، وتعيش الحنين إلى زمن بن غوريون، وتبحث عن قيادتها المفقودة، وعن معنى جديدٍ للنصر، في زمنٍ ينقسم فيه الإسرائيليّون على الانتصار أو الهزيمة، وعلى المرحلة الثانية من خطّة دونالد ترامب. أمّا انتهاك وقف إطلاق النار من قبل المستوى السياسيّ فيعكس التخبّط في الرؤية والتطلّع إلى المستقبل.

* أستاذ العلوم السياسيّة في الجامعة اللبنانيّة.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@WalidSafi16

مواضيع ذات صلة

عامٌ على العهد الجديد… والوعود مكانها

مضى قرابة عامٍ على العهد الجديد ووعوده الكبرى، غير أنّ الأزمات القديمة لا تزال تراوح مكانها، والإنجازات الموعودة لم تتحقّق بعد. في مقدَّم هذه الأزمات…

فرنسا تتحرّك: لوجاندر إلى بيروت… هل يتبعها ماكرون؟

من الطبيعيّ أن يتساءل كُثر عن دور فرنسا في الخضمّ اللبنانيّ في ظلّ التهديدات الإسرائيليّة بتوسيع الضربات ضدّ “الحزب”. هي الشريك الأوروبيّ في لجنة “الميكانيزم”،…

البابا يستفزّ ترامب بلقاء دي نيرو

منذ انتخابه في أيّار 2025، حرص البابا ليو الرابع عشر، ابن شيكاغو، على توجيه انتقادات ضمنيّة، لكن حازمة لسياسات دونالد ترامب في مجالات الهجرة واللامساواة…

بلاد الرّافدين تئنّ عطشاً: الماء مقابل السّيادة

من يصدّق أنّ بلاد الرافدين مهدّدة بالعطش والجفاف؟ الماء، الذي كان سرّ الحياة والازدهار والثروة في العراق، صار عنواناً للخطر والتهديد. لا يكفي هذا البلد…