يشكّل المشهد السياسيّ والأمنيّ في إسرائيل، بعد حرب غزّة، شبكةً معقّدةً من التفاعلات التي تتشابك فيها المصالح الداخليّة الإسرائيليّة والضغوط الخارجيّة التي يمارسها الرئيس دونالد ترامب وإدارته على مختلف المستويات.
الاستعدادات للبدء بالمرحلة الثانية من خطّة ترامب تطرح تساؤلات عن الموقف الإسرائيليّ الحقيقيّ من هذه الخطّة، وكيفيّة تعامل رئيس الحكومة الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو مع هذه الضغوط لإنهاء الحرب.
في هذا الإطار، يعتبر عدد من المحلّلين الإسرائيليّين أنّ الضغط الأميركيّ الكبير على إسرائيل غير مسبوق في تاريخ العلاقات بين البلدين، وأنّ مبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، تحوّل إلى ما يشبه “المفوّض السامي” الذي يأتي إلى إسرائيل لفرض الإملاءات الأميركيّة.
يرى آخرون أنّ إسرائيل فقدت استقلاليّة قرارها في سياستها الخارجيّة، وتحوّلت، مع تدخّلات ترامب وشروطه لإنهاء الحرب، إلى ولاية أميركيّة.
ربّما مقالة إلداد شاليط في صحيفة يديعوت أحرونوت بعنوان “هكذا يتلاشى الحدّ الفاصل في العلاقات بين إسرائيل والولايات المتّحدة” تعبّر بوضوح عن الجدل القائم بين النخب الإسرائيليّة بشأن الضغوط الأميركيّة لوقف الحرب وتنفيذ خطّة ترامب.
الاستعدادات للبدء بالمرحلة الثانية من خطّة ترامب تطرح تساؤلات عن الموقف الإسرائيليّ الحقيقيّ من هذه الخطّة
اندفاعة ترامب وهامش نتنياهو
تُعدّ الولايات المتّحدة، خصوصاً في عهد ترامب، حليفاً استراتيجيّاً قويّاً لإسرائيل. ومع ذلك، يمارس ترامب ضغوطاً متزايدة لإنهاء حرب غزّة وفق خطّته التي تتضمّن وقفاً لإطلاق النار وتبادلاً للأسرى وانسحاباً إسرائيليّاً تدريجيّاً إلى جانب خطّة لـ”اليوم التالي” لحكم القطاع.
يحاول نتنياهو التعامل مع هذا الضغط بطريقة تتيح له المناورة لتنفيذ أجندته الخاصّة، وقد أعطى في الأساس موافقته على خطّة ترامب ضمن الحدود التالية:
- القبول المشروط: منذ البداية أعلن دعمه لخطّة ترامب (المؤلّفة من 20 أو 21 بنداً) بشكل عامّ، لكنّه شدّد على الشروط الإسرائيليّة الأساسيّة، وهي تحقيق “أهداف الحرب” بالكامل، وأبرزها تفكيك القدرات العسكريّة لحركة حماس وإنهاء حكمها السياسيّ وضمان ألّا تشكّل غزّة مجدّداً تهديداً لأمن إسرائيل.
- الاحتفاظ بالمسؤوليّة الأمنيّة: تصرّ إسرائيل على أنّها ستحتفظ “بالمسؤوليّة عن الأمن” في قطاع غزّة، بما في ذلك إقامة منطقة عازلة، وهو ما يمثّل نقطة خلاف رئيسة مع مفهوم الانسحاب الكامل، ويُنظر إليه كمناورة إسرائيليّة في المرحلة الثانية من الخطّة.
- التوظيف السياسيّ الداخليّ: يحاول نتنياهو تلبية مطالب اليمين المتشدّد في حكومته بالتشديد على القضاء التامّ على “حماس” وعدم السماح بقيام دولة فلسطينية، وهو ما يعقّد القبول الكامل والمرن للخطّة الأميركيّة.
معضلات “اليوم التّالي”
تضع المرحلة الثانية من خطّة ترامب، التي تهدف إلى تثبيت وقف إطلاق النار والانتقال إلى مرحلة “اليوم التالي” لإدارة غزّة وإعادة إعمارها، نتنياهو أمام تحدّيات داخليّة وخارجيّة كبرى، أهمّها نزع سلاح “حماس” ومستقبل حكم غزّة.
تنصّ الخطّة بوضوح على نزع سلاح “حماس” وإنهاء حكمها، لكنّ آليّة تحقيق ذلك عمليّاً تبقى معضلة، وقد عبّر عن ذلك نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس خلال زيارته الأخيرة لتل أبيب.
يمارس ترامب ضغوطاً متزايدة لإنهاء حرب غزّة وفق خطّته التي تتضمّن وقفاً لإطلاق النار وتبادلاً للأسرى وانسحاباً إسرائيليّاً تدريجيّاً إلى جانب خطّة لـ”اليوم التالي” لحكم القطاع
من جهة أخرى، يرفض نتنياهو أيّ مشاركة للسلطة الفلسطينيّة الحاليّة، فيما يواجه تحدّي إنشاء آليّة حكم جديدة مستدامة من دون مشاركة لـ”حماس”. ويواجه ضغطاً من اليمين المتطرّف في حكومته، الذي يعارض أيّ بند قد يشير إلى إمكان قيام دولة فلسطينيّة في المستقبل، أو يقيّد حرّيّة حركة جيش الاحتلال في غزّة، وهو ما يهدّد استمراريّة حكومته. وتبرز أيضاً معضلة تمسّكه بالمسؤوليّة الأمنيّة في القطاع، في وقت تتطلّب فيه المرحلة الثانية انسحاباً تدريجيّاً.
إنّ إصرار نتنياهو على الاحتفاظ بـ”المسؤوليّة عن الأمن” ومنح حرّيّة حركة للجيش الإسرائيليّ في القطاع يمثّل نقطة خلاف جوهريّة مع أهداف الخطّة وضمانات الأطراف الأخرى، إذ يحرص ترامب على احترام مواقف الشركاء العرب والمسلمين الذين وافقوا على خطّته ومنحوها الشرعيّة السياسيّة.
إنقاذ إسرائيل من نفسها
يخشى نتنياهو فقدان السيطرة الأمنيّة، في ظلّ عزلة دوليّة متزايدة واستحالة استعادة الشرعيّة لأيّ عمليّة عسكريّة بعد الانتقادات الواسعة للوضع الإنسانيّ في غزّة. ولا شكّ أنّ محاولته إعاقة دخول مرحلة “اليوم التالي” ورفض المقترح المصريّ لتشكيل قوّة دوليّة تشمل قوّات تركيّة يعكسان نواياه الحقيقيّة ووجود أجندة خاصّة لديه.
لا تفسّر القراءة التمهيديّة في الكنيست الإسرائيليّة لمشروع ضمّ الضفّة الغربية وجعلها تحت السيادة الإسرائيليّة عدم جاهزيّة إسرائيل للحلول السلميّة وحسب، بل واستخدام هذه الورقة ذات الطابع الجيوسياسيّ المعقّد لتصفية الحسابات بين أحزاب وشخصيّات الطبقة السياسيّة.
في تعليق على طرح الضمّ في الكنيست، نقلت “يديعوت أحرونوت” أنّ “تحالفاً غير رسميٍّ” نشأ بين أطراف من الائتلاف وأعضاء من المعارضة بهدف إحراج رئيس الحكومة خلال زيارة دبلوماسية مهمّة لنائب الرئيس الأميركيّ جي دي فانس.
إقرأ أيضاً: “لبننة” غزّة أمنيّاً: إنشاء منطقة عازلة
في النهاية، يتعامل ترامب ببراغماتيّة حذرة مع نتنياهو، إذ يعلم أنّه أُرغم على الموافقة على خطّته وأنّ خياراته باتت محدودة قبل الانتخابات البرلمانيّة المقبلة. أمّا جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأميركيّ، فقد عرف كيف يردّ على الاتّهامات الإسرائيليّة بتحويل إسرائيل إلى ولاية أميركيّة، قائلاً: “تدخّلت الإدارة الأميركيّة عندما أيقنت أنّ إسرائيل بحاجة إلى من ينقذها من نفسها”.
المشهد مستمرّ في التحوّلات، ونتنياهو عاجز عن تعطيل خطّة ترامب.
* أستاذ العلوم السياسيّة في الجامعة اللبنانيّة.
