أخطر الرجال على الإطلاق هم أولئك الذين يحترفون السياسة ويمتهنون الأمن. الخلط الناجع بين الضدّين لا يستوي عادة إلّا مع قلّة نادرة من صفوة الأدمغة. ولذلك يصير أصحابها محطّ الانتباه. فتُضاف النجوميّة إلى أصولهم الثابتة. وهذه ثلاثيّة قاتلة في بلادنا. متى اجتمعت في رجل صار نعشه جاهزاً. وتحرّكت على الفور معاول حفّار القبور.
وجدوا مسدّس وسام الحسن على سطح المبنى المجاور. قذفه عصف الانفجار بسرعة الموت خارج سيّارته. تردّدت الأخبار يومذاك عن استهداف كبير. لكن وسام بخير. هكذا قال الجميع بالحرف. تماماً كما لو أنّ القتل استحال لصيق الرجل منذ أمسك علي المملوك من شريانه الأبهر. كلّما سمع الواحد فينا صوت رصاصة في بيروت سأل فوراً عن سلامته. كنّا ندرك جميعاً أنّ الرجل عبث على نحو مهول بروزنامة حياته.
في آخر ظهور له. جلس وسام الحسن إلى جانب ميشال سليمان في قصر بيت الدين. بدا الرئيس مرتبكاً على الرغم من شجاعة الاستقبال. وبدا وسام وكأنّه قطعة من الثلج. على الرغم من فداحة ما أقدم عليه. من كان يجرؤ وقتذاك على بشّار الأسد؟ وكيف لرجل أمن أن ترفعه وطنيّته وألمعيّته ومخيّلته إلى حدود إنجاز دليل قاطع لا يرقى إليه الشكّ عن آلة القتل التي شطبت أغلى الرجال وليس في ملفّاتهم قصاصة من ورق؟
ليس ثمّة دليل مُبرم وملموس على إجرام نظام الأسدين إلّا ذاك الذي قدّمه وسام الحسن بالصوت والصورة. جميعنا كنّا نعرف حدّ اليقين هويّة القاتل ومرجعيّته وأهدافه ومخطّطاته. لكنّنا لا نمتلك من الحقيقة إلّا ما تدركه النفوس في عميقها. أمّا النصوص. فلا نصّ سوى ذاك الذي كتبه وسام الحسن.
ذهب القتلة جميعهم إلى مزابل التاريخ. وظلّ وسام الحسن شاهداً وشهيداً. يرقد إلى يمين رفيق الحريري في قلب بيروت
توأمة نادرة
يحضرنا الرجل في ذكرى رحيله. ولذكراه هذه المرّة رائحة بطعم الياسمين التي هبّت نحونا من دمشق. أمثاله يعيشون طويلاً في الذاكرة. ليس لبراعته والبارعون كثر. ولا لشجاعته. ولا لصفاء سريرته. ولا لنجاعة رأيه أو حُسن طالعه أو ظواهر عبقريّته. بل لأنّه الرجل الوحيد الذي حوّل الأمن إلى ما يشبه قصيدة أو لوحة بديعة بفرشاة رسّام معتبَر.
كان الأمن في مخيالنا قبل وسام الحسن صنو الرعب. صنو الرينجر الذي يدهس الرقاب. صنو الإهانة التي تنسكب فوق الرؤوس وتنهمر فوق الكرامات. كنّا نحسبهم أدوات السلطة الضاربة. سوطهم وكرباجهم وعصاهم الغليظة الفظّة التي تزرع الخوف المستدام. بعد وسام الحسن تعرّفنا إلى النسخة الورديّة من الأمن. تلك التي تظلّ عادة حبيسة الكتالوغ. دفاتر التعليمات. مجرّد عناوين للاستهلاك المقيت. كلمات لتجويد القبح. شعارات منمّقة لمستنقعات بلا قرار.
عقد وسام الحسن صلحاً تاريخيّاً بيننا وبين الدولة العميقة. أنسن الأمن. وأعاده إلى جادّة الصواب. جسّد الصورة الحقيقيّة لذاك الشرطيّ الذي ينتصر للخير في مواجهة بحر من الأشرار. وقد كنّا نظنّه مجرّد مشهد خدّاع في أفلام هوليوود.
أهميّة الرجل لم تقتصر على مهنيّته وذكائه. بل تجاوزتهما إلى توأمة نادرة بين الحسّ الأمنيّ والألمعيّة السياسيّة. وهذه خلطة شديدة التعقيد. لا يستحقّها إلّا من هم على قدر كبير من الأهليّة التي تتجاوز الخبرة والممارسة إلى التكوين بحدّ ذاته. فالأمن والسياسة يخرجان من رحم واحد. لكنّ قلّة قليلة جدّاً هم أولئك الذين يستطيعون أن يبرعوا فيهما معاً. والحال في ذلك تشبه الكتابة باليدين. ميمنة وميسرة. من يستطيعها ويتقنها متميّز بالفطرة.
أهميّة الرجل لم تقتصر على مهنيّته وذكائه. بل تجاوزتهما إلى توأمة نادرة بين الحسّ الأمنيّ والألمعيّة السياسيّةلم يكن قتل وسام محصوراً بكشف ميشال سماحة ومن يقف خلفه. صحيح أنّ الحدث أشعل ناراً لا تخمد في صدور لا ترحم. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ ملفّ الشطب وُضع على الطاولة منذ بدا أنّ وسام ليس كبقيّة الرجال. وأنّ عقله ليس كبقيّة العقول. وأنّ قتله واجب بل ضرورة. سواء سجّل نقطة في خانة علي المملوك أم لم يُسجّل. أمثال هؤلاء لا مكان يسعهم سوى القبر. وأيّ اقتراح بخلاف ذلك هو في الأساس اقتراح مرفوض.
انتصار الشّرطيّ النّبيل
أدرك القاتل أنّ وسام الحسن صار حجراً وازناً في السياسة وفي الأمن. وصار يعرف أكثر بكثير ممّا يحقّ له أن يعرف. واستحالت قدرته على الاستشراف مهولة ومربكة. وقدرته على تقدير الموقف تكاد تكون مطابقة تماماً لما يصير عليه الحدث بعد وقوعه. كلّ العوامل تلك تجمّعت في شخصيّة شديدة الدماثة وشديدة الحكمة والرصانة والهدوء. وهذه أدوات ترفع صاحبها إلى مستويات لا ينفع معها سوى القتل.
كلّ أولئك الذين عرفوا وسام وناقشوه وحاوروه واقتربوا من عقله، قالوا فيه كلاماً لا يقلّ في خلاصته عن الخلاصة التي وصل إليها القاتل. ونحن عند كلّ مناسبة أو استحقاق، نُعيد اكتشاف الرجل، ليس كرئيس أو مؤسّس لفرع أمنيّ تفوّق على ذاته، بل كشخصيّة استثنائيّة عزّ نظيرها، استطاعت أن تجمع ما يصعب جمعه في بوتقة واحدة، وأن تؤكّد أنّ الشرطيّ النبيل الذي ينتصر للخير ولو بدمه لن يظلّ صورة في المخيّلة أو أسطورة في الروايات.
إقرأ يضاً: مات الحارس بعدما ماتت الجمهوريّة
ذهب القتلة جميعهم إلى مزابل التاريخ. وظلّ وسام الحسن شاهداً وشهيداً. يرقد إلى يمين رفيق الحريري في قلب بيروت. ذاك الرجل الذي صار ظلّه ولصيقه وصديقه. وتلك المدينة التي حضنته منذ نعومة أظفاره: شابّاً متوثّباً. وعقلاً فريداً. وقائداً شجاعاً. ورجلاً من قماشة الرجال الرجال.
لمتابعة الكاتب على X:
