تحدّيات غير مسبوقة تواجه سوريا، وهي تختلف جذريّاً عن تحدّيات الماضي. مضامين الصراع عليها في مرحلة ما بعد ركائز النظام الثلاث، البعث والأسد والعسكر، غير مألوفة، وكذلك الخيارات المطروحة. لا حركة تصحيحيّة اليوم بل حركة تأسيسيّة تستوجب الدراية والمرونة بمسؤوليّة واتّزان. طريق طويل وشائك إلى حين الوصول إلى حلول تتميّز بالعدالة والثبات.
منذ نشوء الدولة في عشرينيّات القرن الماضي والصراع على سوريا متواصل. بعد الحرب العالميّة الأولى وتفكّك السلطنة العثمانية جاء الانتداب الفرنسي وحسم خيار الدولة الواحدة بدل الدويلات. مع تحوّلات المراحل اللاحقة بانت الانقسامات في أبعادها الداخلية والخارجية. قبل وصول حافظ الأسد إلى السلطة شهدت سوريا حالة دائمة من عدم الاستقرار، ومعه حلّت الدولة المعسكَرة، ومارست القمع في الداخل واستغلال الثغرات في النظام الإقليميّ لتوظيفها في تقاطعات موضعيّة مع أطراف إقليميّة ودوليّة.
ارتبط الصراع في الخمسينيّات بالمدّ القوميّ العربيّ بقيادة جمال عبدالناصر، وازدادت الخلافات الداخليّة بين حزب البعث، المؤيّد للناصريّة، وخصومه المحليّين، لا سيما الحزب السوري القوميّ الاجتماعي والحزب الشيوعيّ.
الصراع على سوريا في تلك المرحلة تناوله الباحث البريطاني باتريك سيل في كتابه The Struggle for Syria، وتمحور حول دور سوريا وموقعها في نظام إقليميّ متغيّر جرّاء الحرب الباردة والنفوذ الناصريّ. سرعان ما جاء الحسم بإعلان الوحدة بين مصر وسوريا، التي انتهت بالانفصال بعد ثلاث سنوات وبتردّي العلاقات داخل الصفّ العربي الواحد إلى حدّ القطيعة بين حزب البعث الحاكم في كلّ من سوريا والعراق وبين الاثنين وعبدالناصر.
تحدّيات غير مسبوقة تواجه سوريا، وهي تختلف جذريّاً عن تحدّيات الماضي
أبعاد داخليّة وخارجيّة للصّراع
أمّا اليوم فالصراع على سوريا في أبعاده الداخليّة لا يقلّ أهميّة وتأثيراً عن الأبعاد الخارجيّة. وهذا ما يميّز الحقبة الراهنة عن سابقاتها. بدأت مرحلة انتقاليّة بعد أكثر من نصف قرن من حكم العائلة وتحكّمها بالبلاد، فأدخلها في حرب باهظة الكلفة بعد 2011، شاركت فيها إيران وروسيا وسواهما لحماية النظام. ثمّ جاءت التحوّلات الكبرى في السنوات الأخيرة لتُسقط النظام بعدما أصبحت وظائفه المعهودة بلا جدوى.
مع الأسد الابن انخرطت سوريا في مواجهات حاول الأسد الأب إبقاء مسافة منها تتيح له التموضع عند الضرورة. إلى ذلك أضحت طموحات تركيا تجاه سوريا واقعاً، وكذلك إسرائيل بعد سقوط النظام. أمّا أميركا فهي حاضرة عسكريّاً منذ سنوات، فيما الأطراف العربيّة، لا سيما دول الخليج، متحرّكة. الجامع بين أطراف الخارج هذه هو التصدّي لإيران، وبالتالي لـ”الحزب” في لبنان. ولروسيا أيضاً قواعد عسكريّة استراتيجيّة تحافظ عليها، على الرغم من تراجع نفوذها بعد سقوط النظام.

في الداخل جهات منظّمة ومسلّحة، وفي مقدَّمها الأكراد (قسد) الذين يلقون دعم المؤسّسة العسكريّة في أميركا، وهم يتصدّون لتنظيم داعش ويواجهون تركيا لأسباب أخرى. في الجنوب دروز السويداء في حراك غير مسبوق وصدام مع السلطة لم تغِب عنه إسرائيل، بعدما فتح سقوط النظام شهيّتها للتوسّع في الجولان ومحيطه. أمّا الأقلّيّات الأخرى فمتروكون لمصيرهم وللاستهداف العنيف، وإن كانت الحلول المتداولة قد تشملهم بشكل أو بآخر.
تثبيت ركائز السّلطة
الصراع اليوم في أبعاده الداخلية والخارجية لا يشبه صراعات المراحل السابقة: لا توجّهات وحدويّة إقليميّة ولا أوهام بإلحاق الهزيمة بإسرائيل، بل تثبيت ركائز السلطة في الداخل والتأقلم الممكن مع أطراف الخارج التي تتجاذبها أيضاً التباينات. تسعى إسرائيل إلى إضعاف النظام تمهيداً لفرض شروطها، بينما أميركا تريد الاستقرار، وكذلك السعودية ودول عربيّة أخرى. من جهتها، تركيا دافعها التصدّي للأكراد والسيطرة على مناطق متاخمة لحدودها، وهي مربكة في ظلّ غياب التسوية الشاملة.
مع الأسد الابن انخرطت سوريا في مواجهات حاول الأسد الأب إبقاء مسافة منها تتيح له التموضع عند الضرورة
لا اعتبارات أيديولوجيّة
في المحصّلة، اعتراضات الداخل لها طابع الحماية الذاتيّة وتحصيل الحقوق لا الاعتبارات الأيديولوجيّة، خلافاً للماضي. من الخيارات المطروحة اللامركزية بمضامين غير متّفق عليها ما دامت الحلول غير مكتملة.
البديل الإسلامي بعد سقوط النظام السابق ليس مستغرباً. الرئيس أحمد الشرع يبدو الخيار الأنسب بخلفيّته الإسلاميّة وبراغماتيّته العمليّة بعيداً من التشدّد الديني المفرط. يلقى الدعم الأميركيّ والعربيّ بمواجهة إسرائيل وتركيا الساعيتَين إلى التوسّع لأسباب مختلفة. في حين أنّ الغموض يلفّ البعد الإسلامي للنظام، يكمن الامتحان الأصعب في كيفيّة مقاربته الشأن الداخلي بعد التمكّن من السلطة. ثمّة توازنات تفرض مرونة وواقعيّة في مقاربة الملفّات السياسية والعسكرية والاقتصادية. وقد تكون عوامل ضبط وفرقة في آن.
لا تطبيع وإنّما ترتيبات أمنيّة
صراعات المرحلة الانتقاليّة متواصلة ما دامت عناصر الأزمة بأبعادها الداخلية والخارجية قائمة. لكن خلافاً للسرديّات المتداوَلة ليس المطروح تطبيعاً مع إسرائيل بل ترتيبات أمنيّة ممكنة. أمّا مع لبنان فالملفّات العالقة منذ سنوات يمكن تسويتها. ثمّة إرادة لدى الطرفين لإقامة علاقات سويّة بعيداً من تجاذبات الماضي غير المجدية.
تحدّيات غير مسبوقة تواجه سوريا، وهي تختلف جذريّاً عن تحدّيات الماضي. بات الفساد اليوم واقعاً مكلفاً وتصنيع الممنوعات والاتّجار بها ممارسات غير معهودة، وكذلك الحروب البديلة في المحيط الإقليمي التي ارتبطت بالنظام السابق.
إقرأ أيضاً: في ظلال سوريا
مضامين الصراع على سوريا في مرحلة ما بعد ركائز النظام الثلاث، البعث والأسد والعسكر، غير مألوفة، وكذلك الخيارات المطروحة. لا حركة تصحيحيّة اليوم بل حركة تأسيسيّة تستوجب الدراية والمرونة بمسؤوليّة واتّزان. طريق طويل وشائك إلى حين الوصول إلى حلول تتميّز بالعدالة والثبات.
* أستاذ وسفير سابق.
