قلْب لبنان على أميركا وقلْب الأخيرة “على حجر”. باختصار هذه هي قصّة الوطن الصغير والإمبراطوريّة الكبرى والعظمى في التاريخ. يراهن لبنان، عهوداً وطوائف وجماعات وأحزاباً وأفراداً، على أميركا، ولا تريد الأخيرة إلّا سوريا. كان هذا قبل النظام الأسديّ وخلال عقود بطشه وهيمنته، وواضح أنّه مستمرّ في أيّامنا هذه، ولا مؤشّرات تشي بعكس ذلك في الأيّام بل في السنوات المقبلة وربّما العقود.
قام لبنان “الكبير” بإرادة لبنانيّة، مارونيّة تحديداً، وأيدٍ وأرجلٍ فرنسيّة، عام 1920. ثمّ استقلّ عام 1943 بنضالات لبنانيّة ولمسات بريطانيّة حاسمة. لكنّه منذ استقلاله، تحديداً منذ ما بعد الحرب العالميّة الثانية، قلبه على الولايات المتّحدة الأميركيّة، وقلب الأخيرة… على حجر.
قلْب لبنان على أميركا وقلْب الأخيرة “على حجر”. باختصار هذه هي قصّة الوطن الصغير والإمبراطوريّة الكبرى والعظمى في التاريخ
عهود ورهانات
في عهد الرئيس الراحل كميل شمعون كان الرهان على أميركا بينما كانت الأخيرة عيناً على سوريا وثانيةً على مصر وثالثةً على العراق. اقترب منها شمعون حتّى ابتعد عن أحد الجناحين اللبنانيَّين والمزاج العربي الصاعد واقترب من ثورة عام 1958. وصل الأسطول السادس الأميركيّ إلى شواطئ لبنان لكنّه كان يريد “برّ الشام”، لا برّ الوطن الصغير.
في العهد التالي، التقط الرئيس فؤاد شهاب الإشارة سريعاً، فاقترب من عبدالناصر بقدرٍ تسمح به أميركا. كان رهان العهد الشهابيّ على أميركا بينما كانت مصر وسوريا تشغلان حواسّ الأخيرة كلّها. وعلى نهج الشهابيّين سار خصومهم الواصلون إلى سدّة الحكم لإسقاط عهد الأمير ومكتبه الثاني وسياساته. لكنّ أميركا لم تكن تريد إلّا سوريا. دخلت قوّات الأسد الأب إلى لبنان بضوء أخضر أميركيّ.
لم يحِد عن الرهان الرئيس أمين الجميّل في ثمانينيّات القرن الماضي، ولا ميشال عون، وكان وقتها قائداً للجيش ورئيساً لحكومة مبتورة وطامعاً في الرئاسة. لكنّ أميركا كانت تريد سوريا، إلى حدّ إعطائها لبنان مجدّداً بعد مساهمتها في حرب الخليج. استمرّ الأمر طوال التسعينيّات، وصولاً إلى اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وانتهاء التفويض الأميركي لسوريا والعصر الذهبيّ بينهما.
وجدت أميركا في اغتيال الرئيس رفيق الحريري فرصةً لعزل سوريا وإخراج جيشها من لبنان، فصدر القرار الأمميّ 1559 (قبله قانون محاسبة سوريا واستعادة سيادة لبنان)، وبدأت مرحلة جديدة من التوازنات كان فيها لبنان مرّةً أخرى ورقةً في لعبة أوسع.
اشتدّ لاحقاً عود أذرع إيران في المنطقة، وفي لبنان بالنتيجة، أو العكس، ودخلنا في زمن ذي وجه إيرانيّ. ازداد حضور إيران وقوِيَ، واستمرّ لبنان في رهانه، على الرغم من خيبات الأمل المتتالية. لبنان يريد أميركا، والأخيرة تريد إيران وسوريا.
سقط نظام الأسد وسقطت سوريا أو كادت تسقط، وتضعضع النظام الإيرانيّ وشُذّبت أذرعه، ولا تزال أميركا تنشد سوريا وتغنّي إيران. ربّما هي لعنة الجغرافيا، أو استبداد التاريخ، أو فشل لبنان في بناء دولة ومجتمع ومواطنين، وتالياً في فرض حضوره ورسم دورٍ له ينقله من الهامش إلى متن الشرق الأوسط والمتوسّط. وربّما الأمور الثلاثة معاً.
يراهن لبنان، عهوداً وطوائف وجماعات وأحزاباً وأفراداً، على أميركا، ولا تريد الأخيرة إلّا سوريا
عصا وجزرة
عرفت أميركا مقامها عند اللبنانيّين فتدلّلت. قبضت على لبنان برهانه عليها، وجعلته عصا وجزرةً في آن. عصا لمن يعصي في سوريا، وجزرة لمن يطيعها فيها. كان لبنان جزرة أميركا للأسد الأب، يوم نفّذ ما تريد، من انقلابه على اللجنة السداسيّة بـ”حركته التصحيحيّة”، مروراً بدخوله لبنان والقضاء على الحركة الوطنيّة والأحزاب التقدّمية واليساريّة، وقضائه على منظّمة التحرير الفلسطينيّة، وصولاً إلى مشاركته في الحرب على العراق مطلع التسعينيّات.
عصى لبنان الأسد الابن، فعوقب وانقلبت الجزرة عصا حتّى سقط نظام البعث. ما سبق لا ينطبق على نظام الأسد فحسب، بل ينسحب على من سبقوه في حكم سوريا، وهو سارٍ على نظام الرئيس أحمد الشرع. لبنان مقرّ لسوريا إن أطاعت، ومقرّ لخصومها وأعدائها إن عصت. هو أيضاً ممرّ لها إلى العالم، “إن سمعت الكلمة”، وممرّ إليها إن أدارت الأذن الطرشاء.
لم يتغيّر هذا المنظور الأميركيّ منذ ولادة الدولتين اللبنانيّة والسوريّة أوائل القرن العشرين، وكأنّ لبنان محكوم بأن يكون “ملحقاً” بملفّات الكبار، لا لاعباً مستقلّاً. أمّا المنظور الآخر فلم يكن لبنان فيه إلّا مشروعاً غربيّاً في الشرق الأوسط، ودولةً لطالما عدّها حكّام سوريا، على اختلاف توجّهاتهم وانتماءاتهم، محافظةً سوريّةً تتبع لريف دمشق، وصندوق بريد تصل إليه الرسائل من كلّ حدب وصوب ويُردّ عليها منه وفيه وعبر أبنائه غالباً.
لبنان وأميركا وسوريا الشّرع
منذ اللحظة الأولى لسقوط نظام بشّار الأسد، ووصول الرئيس أحمد الشرع إلى قصر المهاجرين، وأميركا لا ترى إلّاه. يصل الموفدون بأجسادهم إلى بيروت بينما أرواحهم تحجّ إلى دمشق. يُجرون محادثات في لبنان تكاد لا تمرّ جملة فيها تخلو من ذكر سوريا. الجعجعة في لبنان والطحين هناك، في شماليّ سوريا وجنوبيّها وشرقيّها وغربيّها.
إقرأ أيضاً: اللامركزية في لبنان وسوريا: هل تكون الحل؟
تريد أميركا السلام بين سوريا وإسرائيل، وأمّا لبنان فتحصيل حاصل إن تحقّق لها ما تريد. هكذا كانت الأمور منذ زمن “وحدة المسار والمصير” الأسديّ إلى زمن وحدة المسار والمصير الشرعيّ (نسبة الى الرئيس أحمد الشرع). يتغيّر الأشخاص وأميركا واحدة، والجغرافيا لا تتغيّر والتاريخ يعيد نفسه.
تدرك النخب السياسيّة اللبنانيّة هذه الحقيقة، وتواصل الرهان على الغرب كمنقذ. لا تنفرد في ما سبق فئة واحدة منهم. هم سواسية في الرهان على أميركا، موارنةً وسنّةً وشيعةً ودروزاً… “كلّهم في الهمّ غربُ”. الفرق الوحيد بينهم أنّ لكلّ منهم وسيلة اتّصال مختلفة: فئة تراهن على مفاوضات بين إيران وأميركا، وفئة بين الأخيرة وسوريا، وثالثة بين الخليج وأميركا، وبين الأخيرة وتركيا… يتعدّد الوسطاء والرهان واحد.
إزاء هذا الوضع، لم يفعل السياسيّون اللبنانيّون سوى تدوير الزوايا بين رهانهم على أميركا ورهان الأميركيّين على سوريا وغيرها.
لمتابعة الكاتب على X:
