عملت الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران منذ ما بعد الحرب العراقية – الإيرانية على نقل أيّ مواجهة إلى الخارج، فأنشأت ميليشيات وربطت تحالفات أغنتها ردحاً من الزمن عن المواجهة المباشرة، لكنّ ما بعد 7 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، كُشف ظهر إيران مع انكسار المحور الذي أدّى إليه سقوط نظام الأسد في سورية والضربة التي تلقّاها “الحزب” في لبنان. فهل باتت طهران “رجل الشرق الأوسط المريض”، أم تنهض مجدّداً؟
بين الحرب الإسرائيليّة الأخيرة على إيران وسنة 1979، بَنَت إيران لنفسها مسارَين في المواجهة مع الغرب: البرنامج النووي الذي تصدّر المشهد بعد سنة 2002، وقبل ذلك شبكة النفوذ الإقليمية التي تراكمت بالتدريج حتّى شملت عدّة دول في المنطقة، وشكّلت تهديداً مباشراً لحليف الغرب الأوّل في المنطقة إسرائيل.
بالنسبة إلى البرنامج النووي، بدت إيران منذ لحظة إثارة الملفّ حالة إشكاليّة تهديديّة بعد كشف منظّمة مجاهدي خلق عن برنامج نوويّ إيرانيّ غير معلن، الأمر الذي أدّى إلى تصاعد التوتّرات مع الغرب، وإلى فرض عقوبات متتالية على إيران، فيما استخدمت إسرائيل الملفّ جاعلةً منه رأس حربة في التحذير من مخاطر إيران وسعيها إلى امتلاك أسلحة دمار شامل.
مع ذلك، عمدت طهران في عدّة مناسبات إلى الجنوح نحو الاتّفاق لطمأنة المجتمع الدوليّ، حتّى كان اتّفاق فيينا في سنة 2015، الذي سعت من خلاله لتطبيع وجودها النوويّ عبر وضع البرنامج بأسره تحت أعين المفتّشين الدوليّين.
وصف العالم الاتّفاق الذي أُعلن في تمّوز 2015 باتّفاق القرن، وحمل بذور الاستمراريّة بحكم القيود التي وُضعت على برنامج طهران. غير أنّ رئيس الحكومة الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو كان حاسماً في رفض الاتّفاق، وعمد إلى زيادة منسوب التشكيك فيه والعمل لاحقاً على إقناع ترامب بالانسحاب منه في مرحلته الرئاسية الأولى.
وصف العالم الاتّفاق الذي أُعلن في تمّوز 2015 باتّفاق القرن، وحمل بذور الاستمراريّة بحكم القيود التي وُضعت على برنامج طهران
على الرغم من محوريّة البرنامج النوويّ، لم يكن عماد التوتّر الحقيقيّ بين الغرب وإسرائيل من جهة، وإيران من جهة ثانية، وإنّما المسار الثاني. شكّلت إيران على مدى العقود الأربعة الماضية سلسلة تحالفات إقليميّة كان عمادها “الحزب” في لبنان وفصائل عراقية وأفغانية وباكستانية، وجماعة أنصار الله في اليمن وقوى المقاومة في فلسطين، إلى جانب نظام الأسد في سورية.
شكّلت سورية نقطة الوصل بين إيران والجبهة ضدّ إسرائيل، فكانت كقطب الرحى الذي بسقوطه، لم يسقط المحور، وإنّما فَقَدَ نظامه العصبيّ الذي كان يربط الرأس والأطراف. اصطُلح على وصف هذه التحالفات بمحور المقاومة، أو جبهة الممانعة التي شكّلت جداراً دفاعيّاً لإيران يحقّق هدف الحماية من المخاطر الخارجية، ورأسَ حربة لتحقيق هدفها المعلن وفحواه إزالة إسرائيل من الوجود أو قوّة إيران خارج حدودها.
المحور يواجه لحظة قاسية
غير أنّ هذا التراكم كلّه واجه لحظة حقيقة قاسية منذ هجمات 7 أكتوبر 2023، عندما قامت حركة “حماس” بعمليّة كبرى في مستعمرات إسرائيليّة في غلاف غزّة أدّت إلى مقتل مئات الإسرائيليّين وأسر 200 منهم على الأقلّ.
في أعقاب هذا الهجوم شنّت إسرائيل حرباً مدمّرة على قطاع غزّة، بالتزامن مع إطلاق “الحزب” في لبنان أوّلاً، ثمّ الفصائل العراقية وأنصار الله في اليمن، هجمات إسناد لغزّة على إسرائيل تطوّرت بالتدريج حتّى وصلت إلى مرحلة بدأ فيه المحور يفقد المبادرة وإسرائيل تفرض الإيقاع. في 1 نيسان 2024، قصفت إسرائيل مبنى ملحقاً بالسفارة الإيرانية في دمشق، الأمر الذي أسفر عن مقتل عدّة أشخاص، بينهم قائد رفيع في قوّة القدس التابعة للحرس الثوري.
دفع هذا الهجوم إيران إلى داخل المواجهة ولو بمستوى محدود. في 13 نيسان، وردّاً على الاعتداء، أطلقت إيران صواريخ ومسيّرات في أوّل هجوم إيرانيّ مباشر على إسرائيل، وهو بالتوازي أوّل خروج لطهران من مساحة الأمان التي رسمتها على مدى أعوام في المواجهة التي كانت دائماً بالواسطة.
بين الحرب الإسرائيليّة الأخيرة على إيران وسنة 1979، بَنَت إيران لنفسها مسارَين في المواجهة مع الغرب
بدت الضربة الإيرانيّة رمزيّة، لكنّها فتحت الباب أمام تطوّر الحرب إلى درجة أعلى نسبيّاً، وهو ما سينعكس في مساحة حرب الظلّ بين البلدين.
في 19 أيّار تتحطّم طائرة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ومعه وزير خارجيّته حسين أمير عبداللهيان في حادث لم تُعرف بعد روايته الكاملة. بعد ساعات من تنصيب خليفته المنتخَب مسعود بزشكيان، يؤدّي انفجار صاروخ في بيت ضيافة للحرس الثوري شمالي طهران إلى اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”، إسماعيل هنيّة، بعد ساعات فقط على اغتيال إسرائيل القائد العسكريّ البارز في “الحزب” فؤاد شكر في ضاحية بيروت الجنوبيّة.
ازدياد الضّغط الإسرائيليّ
بدا جليّاً أنّ إسرائيل تزيد في الضغط على غريمتها إيران والمحور الذي تقوده، بهدف استكشاف مدى قدرة الخصم على المبادرة، لكن مجدّداً تبيّن أنّ المبادرة مقيّدة من طهران إلى بيروت، وأنّ السيناريو الأسلم لدى هذا الطرف يتلخّص في احتواء التصعيد مع الاستمرار في الإسناد حتّى تتحقّق أهدافه المتمثّلة في محاولة وقف الحرب على غزّة. غير أنّ إسرائيل وجدت في ذلك فرصة مؤاتية للانقضاض مبتدئةً بـ”الحزب” في لبنان من خلال أسلوب الصدمة والترويع.

بين 17 أيلول و23 منه، مهّدت إسرائيل لعدوانها الواسع بعمليّات أمنيّة فجّرت خلالها أجهزة النداء، البيجر وأجهزة اللاسلكي، واغتالت عدداً من القادة العسكريّين في “الحزب”، بالتوازي مع ضربات الوزن النوعيّ في الجنوب. في 27 من الشهر ذاته أطلقت إسرائيل حربها باغتيال الأمين العامّ السيّد حسن نصرالله وعدد من قيادات “الحزب” في ضربة جوّية استخدمت فيها 80 طنّاً من المتفجّرات.
سُمع رجع صدى الضربات في بيت المرشد الإيراني الذي أعطى أمراً بإطلاق ثاني حملة صاروخية على إسرائيل تحت عنوان الوعد الصادق 2 في 1 تشرين الأوّل. بدت الضربة أكثر قوّة من تلك التي سبقتها، لكنّها لم تغيّر كثيراً في المعادلة، لأنّها رسّخت مجدّداً مبدأ ردّة الفعل ضمن الملعب والقواعد التي لا تجبر إسرائيل على تغيير مسارها.
أوّل التحدّيات أمام الجمهوريّة الإسلاميّة، قبل التهديد الإسرائيليّ بجولة قصف ثانية، يكمن في إعادة إنتاج البُنية الذهنيّة
استمرّت الحرب على “الحزب” حتّى إعلان وقف إطلاق النار، وبعدها بأيّام فقط، سقط نظام بشّار الأسد في سورية. وبالنسبة إلى إسرائيل، لم تكن الحرب نهاية المسار، إذ بدا واضحاً أنّها كانت تتجهّز للإطباق على إيران بحجّة برنامجها النووي الذي تنظر إليه بعين الريبة وتتّهم طهران بمحاولة بناء قنبلة نوويّة من خلاله.
بدأت الولاية الثانية لدونالد ترامب في سنة 2025 بأجواء إيجابيّة تجلّت في إطلاق مسار تفاوضيّ جديد مع إيران في عُمان امتدّ على خمس جولات، لكن قبل 48 ساعة فقط من الجولة السادسة من المفاوضات غير المباشرة، وتحديداً في 13 حزيران 2025، شنّت إسرائيل أولى حروبها على إيران.
ذروة الاستنزاف
مثّلت الحرب ذروة ما تصفه تل أبيب بـ”عقيدة ضرب رأس الأخطبوط”، وهي رؤية تقوم على اعتبار أنّ إيران ليست قوّة إقليمية وحسب، بل مركز قيادة في طهران يمتدّ عبر أذرع في لبنان وسورية والعراق واليمن وغزّة. تُعدّ هذه الأذرع، في المنظور الإسرائيليّ، مصادر تهديد مباشر ومتعدّد الجبهات، الأمر الذي يستدعي مواجهتها بمنهج شامل يتجاوز الردود الموضعيّة أو المحدودة.
شكّلت “حرب النهضة”، مثلما يسمّيها رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، منصّة انطلاق لحرب إسرائيلية شاملة على إيران وحلفائها، لكنّها حرب من نوع آخر، لا مجال فيها لالتقاط الأنفاس. هكذا حُشرت إيران في ما يشبه عجلة “الهامستر”، إذ ظلّت في موقع المتلقّي للأحداث، وصارت تُستهلك مواردها ورصيدها السياسي والعسكري من دون أن تحقّق اختراقاً أو تبادر إلى فرض معادلة ردع جديدة، فوجدت نفسها في مسار استنزاف متواصل، كالهامستر الذي يركض في دولابه بلا نهاية.
إنّ فقدان المبادرة بالنسبة إلى إيران وحلفائها لا يضعها في موقع المتلقّي فقط، بل يمنعها من فرصة تغيير المعادلة، وهو ما تريده إسرائيل التي تسعى إلى تثبيت موقعها في مساحة الهجوم، كي تكون دائماً جاهزةً لفرض الملعب وقواعد اللعبة، وحتّى مستوى ردود الخصم.
أمّا الخصم فمقيّد بالاشتباك والتحدّيات التي لا تنتهي، وفي الوقت نفسه بتقدير المخاطر وتقويم الفجوة في القوّة بين المهاجم والمدافع، الأمر الذي يجعل الخيار الأسلم مرحليّاً هو عدم المبادرة جرّاء الأسباب النفسيّة التي راكمتها إسرائيل في العقل الجمعيّ لإيران وحلفائها.
صحيح أنّ إيران واجهت الحرب بإدارة جولة ثالثة من عمليّات الوعد الصادق، أي لم تشنّ حرباً شاملة، وإنّما تعاملت مع ردّة فعلها ضمن إطار الردّ
غير أنّ الامتناع عن المبادرة أو العجز عنها، يزيد من سيطرة إسرائيل وقدرتها على فرض الوقائع، ويعجّل في استنزاف الطرف المقابل وفي موته البطيء، إلى درجة يمكن القول فيها إنّ إيران باتت تواجه إمكان وصفها برجل الشرق الأوسط المريض، أو حتّى التساؤل عن مدى استحقاقها فعلاً لهذا اللقب بعد الحرب الأخيرة.
إيران غير مستسلمة
لكنّ إيران لا تبدو مستسلمة لهذا الواقع بشكل كامل، ولا تبدو كمَن تقبل بأن تكون رجل الشرق الأوسط المريض. عندما سارعت إلى احتواء الضربة الأولى التي قتلت عدداً كبيراً من قادتها العسكريّين وعلمائها النوويّين، فرضت على إسرائيل الكشف عن الاستثمارات الأمنيّة داخل إيران، وهو ما عاد وحدث مع فشل الضربة التي استهدفت رئيس الجمهوريّة وأعضاء المجلس الأعلى للأمن القوميّ، والمحاولات المتعدّدة لاغتيال القائد الأعلى آية الله علي خامنئي.
صحيح أنّ إيران واجهت الحرب بإدارة جولة ثالثة من عمليّات الوعد الصادق، أي لم تشنّ حرباً شاملة، وإنّما تعاملت مع ردّة فعلها ضمن إطار الردّ، إلّا أنّها فرضت على إسرائيل تسريع خطاها والدفع بمزيد من العناصر الداخليّة في إيران إلى التحرّك.
مع أنّ الصواريخ الإيرانيّة نجحت في إلحاق أضرار ببعض المدن والبُنى التحتية الإسرائيلية، إلّا أنّ العامل الحاسم في الوصول إلى وقف إطلاق النار لم يكن الخسائر المادّية في حدّ ذاتها، وإنّما محدوديّة النتائج الميدانيّة التي حقّقتها إسرائيل. كشفت الحرب عجز تل أبيب عن تحقيق هدفها الأكبر المتمثّل في إسقاط النظام الإيرانيّ، أو شلّ قدراته الاستراتيجيّة.
في المقابل، استعادت إيران المبادرة بالتدريج عبر إدخال صواريخ أكثر تطوّراً إلى الميدان، وإن بعدد محدود، في رسالة واضحة فحواها أنّها قادرة على تطوير نوعيّة الردّ حتّى في ظلّ ضغوط الحرب.
بدت الضربة الإيرانيّة رمزيّة، لكنّها فتحت الباب أمام تطوّر الحرب إلى درجة أعلى نسبيّاً، وهو ما سينعكس في مساحة حرب الظلّ بين البلدين
الأهمّ أنّ الجولة الأولى بدت أشبه باستطلاع بالنار من كلا الطرفين: إسرائيل أرادت اختبار قدرة الردع الإيرانيّة، وإيران أرادت اختبار فاعليّة منظوماتها الصاروخيّة والقدرة على القتال منفردة. ومن هذه الزاوية، ليس إمكان وقوع جولة ثانية سوى مسألة وقت، فالمعادلة لم تحسَم.
أمّا إيران فخرجت من الحرب بقراءة جديدة: إنّها قادرة على القتال منفردة من دون إسناد حلفائها، والصمود، وهو ما يعزّز معنويّاتها الداخليّة ويمنحها شعوراً بأنّها نجحت في تحقيق هدف الدفاع والثبات أمام ضغوط الحرب، والخروج من المعركة من دون انكسار.
بالتوازي، عمدت طهران إلى استخدام استراتيجية الفصل بين الإسرائيليّ والأميركيّ بهدف إفشال مشروع توسعة الحرب والمشاركة الأميركية الكاملة فيها. وتجلّى هذا في تجنّب طهران أيّ خطوات تصعيدية لا يمكن الرجوع عنها، مثل إغلاق مضيق هرمز، أو الانسحاب من معاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة النوويّة (NPT)، أو تصعيد الردود من خلال حلفائها في العراق ضدّ المصالح الأميركيّة.
فخّ التّفاعل
يمكن القول هنا إنّ إيران أطلقت جهداً أوسع لخلق بيئة استراتيجيّة تمكّنها من الردع والانتقام، من دون أن تُقحم نفسها في التزامات تصعيديّة قد تحدّ من قدرتها على المناورة مستقبلاً. بعبارة أُخرى، يبدو أنّ الجمهوريّة الإسلامية أرادت تحويل الحرب إلى عبء سياسي على خصومها. وهذا التوازن بين إظهار القوّة والحفاظ على مرونة طويلة الأمد يشير إلى أنّ طهران لا ترى في الصراع الحاليّ تحوّلاً جذريّاً لا رجعة فيه بعد.
غير أنّ هذا التحفّظ المحسوب يعيدنا مجدّداً إلى نقطة ضعف بُنيويّة في العقيدة الاستراتيجيّة الإيرانية، وهي تموضعها المزمن في خانة ردّة الفعل. فمنذ 7 أكتوبر 2023، دأبت طهران على تلقّي الضربة الأولى قبل أن تحدّد طبيعة ردّها. وهذه القابليّة للتنبّؤ تمنح الخصوم القدرة على التحكّم في إيقاع الصراع والسيطرة على دوائر التصعيد، ويعرّض البقاء في هذا القالب التفاعليّ إيران لخطر فقدان زمام المبادرة، حتّى وهي تحاول تحويل الأزمات إلى فرص.
يطلق المنظّرون الاستراتيجيّون على هذا النمط اسم “فخّ التفاعل”، وهو وضع يجد فيه طرف ما نفسه دائماً في موقع اللحاق بالأحداث، بينما يحدّد الآخرون الجدول الزمنيّ والجغرافيا والسرديّة.
إيران لا تبدو مستسلمة لهذا الواقع بشكل كامل، ولا تبدو كمَن تقبل بأن تكون رجل الشرق الأوسط المريض
وفق هذا الإطار، تجد إيران نفسها غالباً في موقع الردّ أو النفي أو التأكيد، ولهذا نادراً ما تبادر إلى الفعل. وقد كان هذا واقع الحال في العامَين الأخيرين، مع ملاحظة أنّ إيران قبل ذلك سعت لعقود إلى فرض إطار مختلف للصراع على إسرائيل، من خلال تعزيز حضورها غير المباشر على الحدود اللبنانيّة والسوريّة، والعمق العراقيّ، ودعم الفصائل الفلسطينيّة في غزّة، وفي مرحلة متقدّمة في الضفّة الغربيّة.
إنّ تحدّيات التموضع الانفعاليّ تتفاقم بحكم محدوديّة تحالفات إيران الإقليميّة. على الرغم من الخطاب المستمرّ بشأن دعم القضيّة الفلسطينيّة ومواجهة النفوذ الإسرائيليّ، لم تنجح الجمهوريّة الإسلاميّة في تحويل إطارها الأيديولوجيّ إلى نموذج سياسيّ متماسك وقابل للديمومة، ولا سيما في الدول التي كانت تملك فيها تأثيراً واسعاً.
بين العراق ولبنان
في العراق، أُضعفت فصائل أساسيّة بفعل الضربات الموجّهة، وجرّاء تراجُع مكانتها السياسيّة داخليّاً، وارتفاع الصوت أخيراً بشأن حصريّة السلاح بيد الدولة. هذه الحال هي ذاتها في لبنان بعد نتائج الحرب الأخيرة بين “الحزب” وإسرائيل، التي أدّت إلى ضمور تأثير “الحزب” وتبنّي الحكومة أخيراً ورقة أميركيّة تقضي بنزع سلاحه وحصريّة السلاح بيد الدولة. أمّا في سورية، فانتهى النفوذ الإيرانيّ بسقوط نظام الأسد الذي قطع شريان حياة أساسيّاً بالنسبة إلى المحور.
لا تعني هذه العوامل انهياراً كاملاً، بل تعكس تراجعاً متدرّجاً في نفوذ طهران على أطراف المسرح الإقليميّ. كشفت حرب إسرائيل على إيران عن نقاط ضعف في عمقها الاستراتيجيّ، ووضعت موضع الشكّ افتراض بقاء قدرتها الردعيّة الإقليميّة على حالها. مع أنّ هذا التشتّت لا يُخرج إيران من المعادلة، إلّا أنّه يصعّب عليها حشد جبهة موحّدة أو الاعتماد على حلفائها الإقليميّين لفرض نتائج لمصلحتها، وخصوصاً إذا ما أصرّت على تكرار أخطائها، أو تبنّي الاستراتيجيات القديمة ذاتها.
بدا جليّاً أنّ إسرائيل تزيد في الضغط على غريمتها إيران والمحور الذي تقوده، بهدف استكشاف مدى قدرة الخصم على المبادرة
لذلك أوّل التحدّيات أمام الجمهوريّة الإسلاميّة، قبل التهديد الإسرائيليّ بجولة قصف ثانية، يكمن في إعادة إنتاج البُنية الذهنيّة وما يترتّب على ذلك من تحوّل يعيد هندسة الواقع الميدانيّ بشكل يُخرج إيران من حالة التحرّك في المربّعات التي يسمح بها الخصم.
على الرغم من كلّ ما حدث، لا يمكن الافتراض أنّ قدرة طهران على الحسم معدومة، لكنّها معطّلة ذاتيّاً. وبما أنّها اعتادت الحرب بالواسطة، ظهرت مكشوفة ومتردّدة وتائهة بين ضبط الإيقاع واحتواء الضربات حين دخلت المواجهة المباشرة.
لمراجعة استراتيجيّة شاملة
لذلك لا تواجه طهران في الواقع تحدّي امتلاك القوّة أو النفوذ، بل سؤال القدرة على توظيفهما ضمن نموذج متماسك وقادر على الفعل، لا التفاعل وحسب. لم تعد الممانعة وحدها كافية، ولا العناوين الكبرى قادرة على ستر التشظّي الجاري داخل المحور الذي تقوده طهران.
إنّ الطريق إلى استعادة المبادرة يمرّ عبر مراجعة استراتيجيّة شاملة: مراجعة تعيد تعريف المفهوم نفسه من مقاومة صلبة إلى مشروع سياسيّ فاعل ومستدام يتجاوز الاصطفافات الأيديولوجيّة ويمنح الحلفاء أدوات البقاء، لا شعارات المواجهة فقط. إن أرادت إيران تفادي التحوّل إلى “رجل الشرق الأوسط المريض” فعليها أن تتحرّر من ثقل ردّة الفعل، وتعود إلى موقع الفاعل، وهو ما لا يزال ممكناً، لكن يحتاج إلى تحوّل فكري عميق في مركز القيادة في طهران.
* صحافيّ لبنانيّ متخصّص بالشأن الإيرانيّ ورئيس تحرير منصّة جادة إيران المتخصّصة.
*نقلاً عن مجلة الدراسات الفلسطينية
