تضع السلطة الفلسطينيّة جلّ اهتمامها في تلبية الإصلاحات الضروريّة لمواكبة المرحلة السياسيّة المقبلة، لا سيما بعد الوصول إلى اتّفاق غزّة، والدور الكبير المنوط بالسلطة في القطاع، بعد غياب تجاوَز عقدين من الزمن. فما هي هذه الإصلاحات؟ وكيف السبيل إلى تنفيذها؟ وماذا بالنسبة لحركة فتح التي بدأت مرحلة تنظيميّة جديدة لاستعادة دورها الوطنيّ بمواكبة داخليّة وعربيّة ودوليّة؟
جرت في الأيّام الأخيرة بعض مياه المصالحة الداخلية في عروق حركة فتح، مع إعلانها عودة عضو لجنتها المركزيّة المفصول منذ آذار 2021 ناصر القدوة إلى موقعه السابق، بعدما عمل على تشكيل قائمة انتخابيّة منفصلة عن الحركة لخوض الانتخابات البرلمانية التي كانت ستجري في أيّار عام 2021.
تضع السلطة الفلسطينيّة جلّ اهتمامها في تلبية الإصلاحات الضروريّة لمواكبة المرحلة السياسيّة المقبلة، لا سيما بعد الوصول إلى اتّفاق غزّة
قرار استراتيجيّ بالإصلاح؟
جاءت الموافقة على عودة القدوة للحركة بقرار من الرئيس محمود عبّاس واللجنة المركزية، استجابة لرسالة بعث بها القدوة إلى عبّاس يطلب فيها العودة، استناداً إلى التعهّد الذي قطعه في آذار الماضي أمام القمّة العربية واستجاب فيه لتمنّيات بعض الدول العربيّة إجراء مصالحة داخلية في الحركة، وإصدار عفو عن جميع المفصولين منها، واستحداث منصب نائب لرئيس منظّمة التحرير ودولة فلسطين.
يتّضح يوماً بعد آخر أنّ السلطة الفلسطينية ومن خلفها حركة فتح اتّخذت قراراً استراتيجيّاً هو إطلاق ورشة “إصلاحات”، وهي ماضية في ذلك على كلّ المسارات لإعادة تفعيل دورها الداخليّ في هذا الظرف التاريخيّ ولكسب الدعم السياسيّ والماليّ العربيّ والدوليّ.
يمكن قراءة عودة القدوة للحركة من ناحية الأسباب والأهداف من خلال 4 سيناريوهات:
- أوّلاً: يرى البعض أنّ العودة خطوة قائمة على المراجعة الذاتيّة والإصلاح داخل “فتح”، واستعادة كوادرها وقياداتها التاريخيّة، الأمر الذي يمنحها زخماً سياسيّاً وشعبيّاً في الشارع، خاصّة مع استكمال المصالحات الداخليّة.
- ثانياً: يصفها البعض بالمرونة السياسيّة المطلوبة من الحركة، لا سيما بعد الرغبة العربيّة والإقليميّة التي تريد احتواء الخلافات داخل الحركة والسلطة، استعداداً للاستحقاقات المقبلة، وتحديداً في مرحلة ما بعد الرئيس عبّاس.
- ثالثاً: ترى آراء عدّة أنّ العودة تجسّد أزمة عميقة في بنية ووظيفة الحركة تتعلّق بمركزيّة القرار وتآكل الشرعيّة التنظيميّة وانكماش الدور الجماهيريّ، وأنّها خطوة بعيدة عن جوهر الإصلاحات بقدر ما هي إعادة تفاهم على الأدوار في المستوى القياديّ ذاته الذي لم يتغيّر منذ عقود.
- رابعاً: تتعلّق عودة القدوة بترتيبات مستقبليّة تخصّ عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزّة، فالقدوة من أبناء القطاع، ويتمتّع برمزيّة تاريخيّة لأنّه ابن شقيقة الرئيس الراحل ياسر عرفات، إلى جانب خبرته الدبلوماسية ومكانته المقبولة دوليّاً.
قال الكاتب والمحلّل السياسي محمد هواش لـ”أساس” إنّ عودة ناصر إلى مركزية “فتح” وإلغاء كلّ القرارات ضدّه هما محاولة لترتيب أوضاع “فتح” الداخليّة ولمّ شملها بسبب التداعيات التي فرضتها الحرب والتحدّيات السياسية ومحاولات إضعاف مكانة السلطة و”فتح” في قيادة الحركة الوطنيّة.
لفت هواش إلى أنّ خبرة القدوة السياسيّة ومكانته ومكانة عائلته السياسية ربّما تدفعه ليلعب دوراً في مستقبل قطاع غزّة من خلال حركة فتح، موضحاً أنّ هناك استجابة لدى “فتح” لنصائح الدول العربيّة الشقيقة التي تهتمّ بمصلحة الشعب الفلسطيني، والتي ترى أنّ الانقسام الفلسطينيّ أضعف كلّ الأطراف، ومنهم مكانة السلطة.
أشار هواش إلى أنّ السلطة تواجه مطالب أميركية وأوروبية تبدو مستحيلة، وبعضها قائمة على ادّعاءات إسرائيليّة، ومنها أنّ السلطة غير مؤهّلة لكي تكون جزءاً من مستقبل غزّة والضفّة، وأنّها فاسدة إداريّاً وماليّاً، وغير جديرة بأن تكون شريكاً في أيّ اتّفاق مستقبليّ، ولذلك نصحت الدول العربية “فتح” والرئيس عبّاس بضرورة إعطاء انطباع مغاير لذلك، تحريك الأوضاع السياسيّة الداخلية، تحسين منظومة الحكم في السلطة، سدّ الثغرات المتعلّقة بغياب الانتخابات والمجلس التشريعي وأن تكون السلطة أكثر مرونة.
رأى هواش أنّ “هناك استجابة من السلطة الفلسطينيّة والرئيس عبّاس لكلّ ما يُطلب منهما حتّى تمرّ هذه المرحلة وتزول كلّ الشروط الموضوعة أمامها”.
يتّضح يوماً بعد آخر أنّ السلطة الفلسطينية ومن خلفها حركة فتح اتّخذت قراراً استراتيجيّاً هو إطلاق ورشة “إصلاحات”، وهي ماضية في ذلك على كلّ المسارات
تطويق الفساد وملاحقة الفاسدين
يقيم القدوة حاليّاً في فرنسا، ويبدو منفتحاً على تسلّم أيّ منصب أو دور ضمن إطار السلطة الفلسطينية، وهذا ما ستحدّده الاجتماعات المقبلة التي سيعقدها مع المسؤولين، حسب ما صرّح به لقناة “سكاي نيوز عربية”.
قال القدوة إنّ الإصلاحات داخل السلطة من الأفضل لو كانت من منطلق وحاجة فلسطينيَّين، ولم تكن مطالب خارجية، مشدّداً على أهميّة الإصلاح بما فيه محاربة الفساد، باعتباره أمراً “ضروريّاً ومهمّاً جدّاً” لاستعادة الثقة المفقودة بين الشعب والقيادة.
بالتزامن مع قرار عودة القدوة، كشفت السلطة الفلسطينية عن ملفّي فساد للرأي العامّ، يتعلّق أوّلهما بوزير النقل والمواصلات طارق زعرب الذي صدر قرار من الحكومة بإيقافه عن العمل ورفع الحصانة عنه في أعقاب تحقيقات أجرتها النيابة العامّة معه، وتوجيه اتّهامات إليه تتعلّق بشبهات اختلاس ماليّ وتلقّي رشى.
أمّا الملفّ الثاني والأكثر سخونة فيتعلّق برئيس هيئة المعابر والحدود نظمي مهنّا، الذي شغل المنصب لأكثر من ثلاثين عاماً، والذي قرّرت المحكمة المختصّة بجرائم الفساد استدعاءه للتحقيق معه ومع 15 شخصاً آخر، منهم زوجته وسبعة من أولاده وبناته، بينهم ابنه سفير فلسطين في ألبانيا سامي مهنّا، وأربعة من موظّفي قسم المحاسبة على المعابر، ورجل أعمال.
إقرأ أيضاً: ترامب يفوز بجائزة غزّة
طلبت المحكمة المختصّة رفع السرّية المصرفيّة وتتبّع نشاطات الخزائن الحديديّة للمستدعين، ورفع السرّيّة عن المعلومات والحسابات الخاصّة المدرجة لدى هيئة سوق رأس المال والبورصات والأسواق والمراكز المرخّصة من قبلها، وتتبّع الأملاك المنقولة وغير المنقولة العائدة لهم، وإيقاع الحجز التحفّظيّ على الأموال المنقولة وغير المنقولة العائدة لهم.
جاء التحرّك ضدّ مهنّا على خلفيّة تورّطه في قضيّة تهريب آثار انكشفت قبل أسابيع، ويتورّط فيها أكثر من 30 شخصاً، بينهم ضبّاط ومسؤولون أمنيّون.
يبدو أنّ السلطة وصلت إلى خلاصة ضرورة البدء بورشة إصلاحيّة شاملة، وتريد أن تثبت أنّها ماضية فيها، ولذلك من المتوقّع أن تشهد الفترة المقبلة عودة العديد من المفصولين إلى الحركة، وكشف المزيد من ملفّات فساد.
