قطر: من ضربة عسكرية إلى معركة دبلوماسية

مدة القراءة 8 د

تجاوز العدوان الإسرائيلي على قطر في 9 أيلول 2025 القواعد المألوفة في المنطقة، حين استهدف المدينة التي عُرفت لقرابة عقدين من الزمن باعتبارها “عاصمة الوساطة”، التي أصبحت نقطة محوريّة في كلّ المفاوضات والصفقات المعقّدة. لذلك لم يكن الهدف فقط الوفد الفلسطيني المقيم فيها، بل كان الهدف الأوسع هو ضرب وتجريم فكرة الوساطة العربيّة نفسها من خلال استهداف حاضنتها.

 

كسرت هذه الخطوة “تابو” سياسيّاً راسخاً. فقد كانت قواعد الاشتباك غير المعلنة تمنح العواصم التي تضطلع بدور الوساطة نوعاً من الحصانة، حتّى في أوقات الذروة. بقفزها فوق هذا الخطّ الأحمر، أرسلت إسرائيل رسالة واضحة بأنّها لا تعترف بأيّ حماية سياسيّة أو قانونيّة للوسطاء. دفع هذا الوضع العالم إلى التساؤل: هل يمكن حقّاً بناء نظام أمنيّ أو تحقيق تسويات سياسية في المنطقة إذا كانت المدن الوسيطة نفسها عرضة للقصف؟

أكثر صلابة

لم يكن ردّ فعل الدوحة على العدوان انفعاليّاً ولا دفاعيّاً فقط، بل كان استراتيجيّاً. ففي غضون أيّام، تحوّلت العاصمة القطريّة إلى منصّة حشد دبلوماسي غير مسبوق عبر القمّة العربية–الإسلامية الطارئة في 15 أيلول، والبيان الختامي للقمّة الذي أدان “بأشدّ العبارات” الهجوم، واعتبره تهديداً مباشراً للسلم الإقليميّ، وأعاد تأكيد مركزيّة القضيّة الفلسطينيّة ورفض أيّ مسار تطبيع لا يقوم على دولة فلسطينيّة مستقلّة.

الأهمّ من البيان هو المشهد السياسيّ ذاته: جمعت الدوحة تحت سقف واحد أطرافاً متباعدة، من دول عربيّة محافظة إلى حكومات إسلامية راديكاليّة، مروراً بعواصم إفريقيّة وآسيويّة. هكذا تحوّلت “المدينة المستهدَفة” إلى “مركز جامع” فكسبت شرعيّة إضافية كوسيط.

ما بعد العدوان على الدوحة ليس كما قبله. فقد فتح العُدوان باباً لنقاش غير مسبوق في قواعد الصراع

إلى ذلك التقط مجلس التعاون الخليجيّ اللحظة بدوره فأعلن عزمه تفعيل آليّات الدفاع المشترك. لم تكن هذه الخطوة شعاراً وحسب، بل اعتراف صريح بأنّ استهداف الدوحة يفتح الباب أمام استهداف الرياض أو أبوظبي أو الكويت. أي أنّ العدوان دفع باتّجاه إعادة تعريف الأمن الخليجيّ: من أمن دفاعيّ-محليّ إلى أمن ردعيّ–إقليميّ يقوم على الإنذار المبكر وتبادل المعلومات ودمج قواعد الاشتباك الدفاعيّة. فضلاً عن اتفاقية الدفاع المشترك بين السعودية وباكستان.

خرجت قطر نفسها أكثر تماسكاً. فبدلاً من أن تُحشر في زاوية الضحيّة، قدّمت نفسها كعاصمة ردع سياسي. وهذا ما يفسّر الحراك الدبلوماسي الذي شهدته الأيّام التالية، والذي نجح في تحويل التعاطف الدولي إلى نقاش عمليّ في حماية الوسطاء.

سوريا: من العدوان على الدّوحة إلى منبر الأمم المتّحدة

لا يمكن فصل التطوّرات عن المشرق. فدمشق، التي تحاول منذ وصول الرئيس أحمد الشرع إلى السلطة إعادة تثبيت شرعيّتها داخليّاً وخارجيّاً، رأت في استهداف قطر إنذاراً مضاعفاً. فالقنوات القطريّة كانت من بين المسارات التي تراهن عليها سوريا لفتح ثغرات في جدار العزلة الخليجيّة. المساس بهذه القنوات يعني تعقيد مهمّة الشرع في إعادة التموضع.

لكن في الوقت ذاته وفّرت الواقعة فرصة لسوريا كي تقدّم نفسها في نيويورك، عبر مشاركة الشرع في الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، كدولة معنيّة مباشرة بضرورة صون “أمن الوسيط”. فخطاب دمشق لم يعد محصوراً بمطالب إعادة الإعمار أو رفع العقوبات، بل بات يتضمّن حجّة إضافيّة: استقرار سوريا والمنطقة لا يمكن أن يتحقّق من دون حماية العواصم الوسيطة التي تسمح بالحوار.

بكلمات أخرى، استفادت دمشق من لحظة الدوحة كي تعيد صياغة روايتها أمام المجتمع الدوليّ: لم تعد دولة منبوذة وحسب، بل طرف يسعى إلى بناء بيئة تفاوضيّة محميّة في مواجهة سياسة إسرائيل القائمة على “تدويل الاستهداف”.

منحت القمّة الطارئة الدوحة غطاءً سياسيّاً، لكنّ ما جعل اللحظة أكثر عمقاً هو التزامن مع أعمال الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة

تركيا: قراءة مزدوجة للعدوان على الدّوحة

بالنسبة لأنقرة، العدوان الإسرائيلي على الدوحة كان بمنزلة استهداف مزدوج: فهو طال حليفها الأقرب في الخليج، وأصاب معادلة التوازن التي مكّنت تركيا من لعب دور مرن بين إسرائيل والفلسطينيّين.

جاء ردّ تركيا على مستويَين متوازيَين:

1- أمنيّ – عسكريّ: تعزيز التعاون الاستخباريّ مع قطر، والنظر في نشر قدرات مراقبة واستطلاع تركيّة لحماية الفعّاليّات الدوليّة والوفود في الدوحة.

2- سياسيّ – قانونيّ: استثمار القمّة الطارئة لإطلاق مقاربة تدعو إلى الاعتراف بـ “أمن الوسيط” كمعيار دوليّ، على غرار حماية مقارّ المنظّمات الأمميّة.

في الوقت نفسه، أبقت أنقرة على قنوات تواصلها مع تل أبيب، مدركة أنّ قطيعة شاملة ستضرّ بمصالحها في شرق المتوسّط. لكنّها عزّزت خطابها كضامن محتمل، ليس فقط في غزّة، بل في سوريا أيضاً، ما يعني توسيع هامشها الإقليميّ.

لبنان وسوريا: الارتدادات المباشرة

في لبنان، جاء العدوان ليزيد تعقيد ملفّ السلاح غير الشرعيّ وخطّة الجيش لحصره بيد الدولة. فالخطّة مرتبطة ببيئة وساطة إقليمية قابلة للتفاهمات. رفع استهداف قطر كلفة أيّ تسوية، وضاعف من مخاطر انتقال التوتّر إلى الجبهة الجنوبيّة أو إلى الداخل السياسي اللبناني.

أمّا في سوريا، حيث يسعى الشرع إلى إعادة بناء مؤسّسات الدولة وضبط الفصائل المسلّحة، فقد جعل العدوان أيّ حوار داخليّ-خارجيّ أكثر حساسيّة. أصبح ربط ملفّات الإغاثة والإنعاش المبكر بالقنوات السياسية أكثر تعقيداً عندما تُستهدف تلك القنوات، وبهذا تحوّل “العدوان على الدوحة” إلى عامل ضاغط على المشرق برمّته، ودفع العدوان باتّجاه إعادة تقويم الاعتماد على الوساطة الخليجيّة.

رفع استهداف قطر كلفة أيّ تسوية، وضاعف من مخاطر انتقال التوتّر إلى الجبهة الجنوبيّة أو إلى الداخل السياسي اللبناني

نظرة إسرائيل لسوريا: قطع الإمداد ومنع المرجعيّة

الأهمّ بعد استهداف قطر هو كيفيّة النظرة الإسرائيلية، وتحديداً حكومة بنيامين نتنياهو، إلى سوريا من زاوية مزدوجة تجمع بين الحذر والفرصة. فعلى الرغم من الرعاية الأميركية والعربية لإدارة الرئيس أحمد الشرع ومحاولة إعادة دمج دمشق في المحيطين العربي والدولي، تبقى الحسابات الإسرائيلية محكومة بهاجس الأمن الاستراتيجيّ.

ترى تل أبيب أنّ أيّ مسار سياسي لا بدّ أن يفضي إلى ضبط الوجود الإيراني في سوريا، والحدّ من قدرات “الحزب” اللوجستيّة والعسكريّة التي تعتمد على الأراضي السوريّة بوصفها ممرّاً ومخزناً للسلاح.

لذلك الهدف الإسرائيلي المركزيّ يظلّ منع قيام بيئة سوريّة جديدة تسمح بإعادة ترميم محور الممانعة، سواء من خلال اتّفاقات إعادة الإعمار المدعومة خليجيّاً أو عبر تفاهمات أمنيّة برعاية واشنطن وموسكو. وبقدر ما تراقب إسرائيل التحوّلات في دمشق، تعمل على ضمان أن لا تتجاوز أيّ تسوية في المشرق هواجسها الأمنيّة: تحييد الجنوب السوريّ، قطع خطوط الإمداد بين طهران وبيروت، وضمان أن لا يتحوّل الشرع إلى مرجعيّة سياسية يمكنها إعادة صياغة توازنات المنطقة على حساب التفوّق الإسرائيليّ.

يساعد هذا المنظور على فهم مستقبل المشرق، إذ إنّ أيّ إعادة بناء لسوريا ستبقى مشروطة بمدى قدرة اللاعبين العرب والدوليّين على طمأنة إسرائيل أو تحييد اعتراضاتها.

البعد الدّوليّ: نيويورك بعد الدّوحة

منحت القمّة الطارئة الدوحة غطاءً سياسيّاً، لكنّ ما جعل اللحظة أكثر عمقاً هو التزامن مع أعمال الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة. فالعالم وجد نفسه يناقش في نيويورك ليس فقط قضايا فلسطين أو سوريا، بل أيضاً قضيّة جديدة: هل للوسطاء حصانة؟

خرجت قطر نفسها أكثر تماسكاً. فبدلاً من أن تُحشر في زاوية الضحيّة، قدّمت نفسها كعاصمة ردع سياسي

جاءت زيارة الرئيس السوريّ أحمد الشرع لنيويورك في هذا التوقيت لتعيد طرح السؤال من زاوية مختلفة: إذا كانت الأمم المتّحدة تعتبر نفسها منصّة للحوار بين الخصوم، فكيف تسمح للمجتمع الدولي بالتغاضي عن قصف عاصمة وسيطة؟ بهذا، لم يعد خطاب الشرع مقتصراً على عرض رؤية سوريا لمرحلة ما بعد الحرب، بل أصبح جزءاً من معركة دوليّة أوسع من أجل قواعد الاشتباك.

من لغة الإدانة إلى هندسة الرّدع

ما بعد العدوان على الدوحة ليس كما قبله. فقد فتح العُدوان باباً لنقاش غير مسبوق في قواعد الصراع: من حماية الحدود والمدن إلى حماية العواصم الوسيطة. فقطر، التي كانت هدفاً، اكتسبت شرعية مضاعفة. سوريا التي تبحث عن عودة دولية، وجدت في نيويورك فرصة لطرح نفسها طرفاً معنيّاً بالاستقرار. تحرّكت تركيا، التي تتقاطع مصالحها مع قطر، لتكريس معيار قانونيّ جديد. أمّا الخليج فبدأ رحلة هندسة ردع جماعيّ بعدما اكتشف هشاشة المظلّة الأميركية.

إقرأ أيضاً: ضرب قطر… شنّ حرب على السّلام

بهذا ارتدّ العدوان على إسرائيل نفسها: فهي لم تُضعف دور قطر، بل عزّزته، ولم تردع الوسطاء، بل دفعتهم إلى المطالبة بحمايتهم دوليّاً. وما بين أيلول الدوحة وأيلول نيويورك، يتبلور درس إقليمي جديد: الوساطة ليست ضعفاً، بل باتت جزءاً من معادلة الردع. ومن يحاول معاقبة الوسيط فإنّما يفتح الباب أمام نظام أمنيّ بديل، قد يضع إسرائيل في مواجهة عزلة أوسع من أيّ وقت مضى.

 

* مدير مركز أبعاد للدراسات الاستراتيجيّة.

مواضيع ذات صلة

السّعوديّة طوق النّجاة للبنان

ثلاث ثوابت تحكم علاقة المملكة العربيّة السعوديّة بلبنان: الحرص على وحدة لبنان وسلامته وازدهاره. التعامل مع لبنان على قاعدة المؤسّسات والشراكات السياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة. التعامل…

“الحزب” يريد تطويع “الطّائف”

ثمّة خلط في المصطلحات، بين حقّ المقاومة، وبين سلاح المقاومة. يستند “الحزب” إلى الأوّل، لتبرير التمسّك بالثاني. الفرق نوعيّ بين الأمرين. حقّ الدفاع عن النفس،…

أسعد الشّيباني… المُمسك بشعرة معاوية

إلى نادي وزراء الخارجيّة في العالم انضمّ عضو جديد قبل عامٍ إلّا أيّاماً، اسمه أسعد حسن الشيباني. ملأ مقعده حتّى ليخيّل للمتابع أنّه دائم فيه،…

قمّة الحسم بين الرّئيس والأمير

من بين كلِّ القمم واللقاءات التي عقدها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ولايته الثانية مع قادة العالم، بمَن فيهم الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين، ستكون قمّتُه…