شكّل خطاب الرئيس المصريّ عبدالفتّاح السيسي في القمّة العربية – الإسلامية في الدوحة محطةً لافتة. اتّسمت كلمته بلهجة حادّة، إذ وصف إسرائيل صراحةً بأنّها “العدوّ”، محذّراً من أنّ معاهدات السلام القائمة والمستقبليّة باتت مهدّدة. شدّد على ضرورة عدم التساهل مع “الارتكابات الإسرائيلية التي تجاوزت كلّ الحدود”، موجّهاً خطاباً مباشراً إلى الإسرائيليّين، محذّراً إيّاهم من “الجحيم” الذي تدفعهم إليه سياسات حكومتهم المتطرّفة، وما قد تجرّه على المنطقة من أخطار جسيمة.
اللغة غير المألوفة في الخطاب جعلته محطّ اهتمام واسع في الإعلام الإسرائيليّ، خصوصاً لما تضمّنه من إشارات واضحة إلى احتمال إعادة القاهرة النظر في علاقاتها مع تل أبيب. وصفت صحيفة “إسرائيل هيوم” خطاب السيسي بأنّه تحذير مباشر للحكومة الإسرائيلية، فيما رأت هيئة البثّ الإسرائيليّة أنّ لهجته القويّة تمثّل تهديداً لاتّفاق السلام بين مصر وإسرائيل.
الحدث الذي انعقدت القمّة على أثره استثنائيّ بحدّ ذاته ويستدعي ردّاً استثنائيّاً. ارتكاب جريمة كبرى في عاصمة دولة تضطلع بدور الوسيط في عمليّة سلام يشارك فيها الأميركيون والإسرائيليون أنفسهم، شكّل زلزالاً استراتيجيّاً هزّ الشرق الأوسط. أمّا استهداف دولة خليجيّة تحتضن أكبر قاعدة عسكريّة أميركية في المنطقة، فقد كشف هشاشة المنظومة الأمنيّة الإقليميّة، وألقى بظلال كثيفة على الدور الأميركي الذي طالما عُدّ مظلّة الحماية الأولى لحلفاء واشنطن.
إعادة النّظر بالمعادلات الأمنيّة
من هنا، جاءت الدعوة المصريّة إلى إعادة النظر في المعادلات الأمنيّة القائمة، التي لا تحمي ولا توفّر الأمان، والانتقال نحو إنشاء آليّة عربيّة – إسلامية للتنسيق والتعاون في مواجهة التحدّيات الأمنيّة والسياسيّة والاقتصاديّة الكبرى.
تزامنت التصريحات مع التصنيف الدوليّ للجيوش وفق موقع “غلوبال فاير باور”، الذي وضع مصر في المرتبة الـ19 عالميّاً
لم تكتفِ مصر بتوجيه رسائل واضحة إلى إسرائيل، بل أرفقتها برسائل مشابهة إلى أميركا التي لا تنفكّ تضغط على القاهرة وعمّان لإحياء مشاريع قديمة لتهجير الفلسطينيّين إلى سيناء والأردن. هذا خطّ أحمر مصريّ لا يمكن لأيّ حاكم في مصر أن يتخلّى عنه أيّاً كان الثمن. غزّة فلسطينيّة وللفلسطينيّين وسيناء مصريّة وللمصريّين، ولن تكون وطناً بديلاً لأحد.
“جنون” التّسلّح المصريّ
لم يأتِ منطلق الحذر الإسرائيليّ من تغيير لغة الخطاب السياسي المصريّ بحدّ ذاته، بل من الأولويّة التي تعطيها مصر منذ زلزال “طوفان الأقصى” لعمليّة التسلّح، وإعادة تجهيز الجيش المصريّ بأحدث أنواع الأسلحة لإعادة الاعتبار لمعادلة القوّة في المنطقة وإبراز القدرة المصريّة على الردع.
تفيد تقارير مراكز الدفاع الدوليّة والمجلّات المتخصّصة بالدفاع أنّ القاهرة عكفت منذ فترة على تنويع مصادر تسلّح الجيش المصريّ، في تعبير عن استيائها من السياسة الأميركيّة في بيع السلاح المشروط، من أجل الحفاظ على التفوّق النوعيّ للجيش الإسرائيليّ على باقي جيوش المنطقة.

أنهت القاهرة في تمّوز 2025 نشر منظومة HQ-9BE الصينيّة التي يبلغ مداها 200 كيلومتر ورادار قادر على رصد الطائرات الشبحيّة. وفقاً لوسائل إعلام صينيّة أثبتت الاختبارات في صحراء مصر قدرة النظام على اعتراض أهداف تحاكي F-35 بنسبة نجاح بلغت 92%، وبتكلفة أقلّ من نظيره الروسيّ S-400. وقدّمت بكين حزمة تسليحيّة متكاملة تشمل طائرات إنذار مبكر ونقل، وهو ما أنهى مأزق “تعدّد المنظومات” الذي عانت منه القاهرة لعقود.
في مجال الطيران الهجوميّ، برزت المقاتلة الصينية جيان J-35 باعتبارها “مغيّرة قواعد اللعبة”. أظهرت هذه الطائرة الشبحيّة الثنائيّة المحرّك في عروضها الجوّية مستوى من التكافؤ الملحوظ مع المقاتلة الأميركية F-35، الأمر الذي دفع القاهرة إلى طرح فكرة إنشاء خطّ تجميع محلّي لها، في خطوة تعكس سعيها إلى تعزيز استقلاليّتها الاستراتيجيّة في مجال التسليح.
رأت هيئة البثّ الإسرائيليّة أنّ لهجة السيسي القويّة تمثّل تهديداً لاتّفاق السلام بين مصر وإسرائيل
في موازاة ذلك، أبرمت مصر صفقة ضخمة تُقدَّر قيمتها بأكثر من مليار دولار مع كوريا الجنوبية للحصول على 100 طائرة من طراز FA-50. تشبه هذه المقاتلة في قدراتها طائرة F-16 الأميركية، لكنّ الأهميّة الاستراتيجيّة للاتّفاق تكمن في تضمّنه بنداً لنقل التكنولوجيا يتيح تصنيع عدد من الطائرات محليّاً داخل مصر.
إسرائيل تخشى التّهديد المصريّ
كان رئيس الأركان الإسرائيلي السابق، هارتسي هاليفي، عبّر عن مخاوفه من تهديد أمنيّ محتمل من مصر التي قال إنّها “لا تمثّل تهديداً مباشراً لإسرائيل حاليّاً، لكنّ هذا الوضع قد يتغيّر في أيّ لحظة”. أبدى مندوب إسرائيل الدائم في الأمم المتّحدة داني دانون قلقه من التطوّرات العسكرية المصريّة، متسائلاً: “لماذا يحتاج المصريون إلى كلّ هذه الغوّاصات والدبّابات؟”.
تحت عنوان “ما وراء جنون التسلّح المصريّ”، قالت القناة السابعة بالتلفزيون الإسرائيلي في تقرير لها إنّ مصر تحاول بناء أكبر قوّة بحريّة في الشرق الأوسط، متسائلة: لماذا تستثمر البلاد الكثير من الأموال في التعزيز العسكريّ؟
كان تقرير نشره موقع Hidabrootالإخباريّ الإسرائيليّ الذي يصدر عن اليمين المتشدّد في إسرائيل، قال إنّ “الجيش المصريّ يزداد قوّة. يسلّح نفسه وينمو بلا توقّف”. وبثّت قناة i24NEWS الإخباريّة الإسرائيليّة فيلماً وثائقيّاً من جزءين تحت اسم “بركان الغضب” تحذّر فيه من تعاظم قوّة الجيش المصريّ وتسليحه المتقدّم.
حذّر أيضاً تقرير لموقع Nziv الإخباريّ الإسرائيليّ من استعداد مصر لتحديث أسطولها القديم من الغوّاصات والحصول على غوّاصات أقوى من الغوّاصة الألمانّيةType 209 . أضاف أنّ مصر تدرس أيضاً تصميم الغوّاصة “باراكودا” من “المجموعة البحريّة الفرنسية” لتلبية متطلّباتها المستقبليّة من الغوّاصات. كشف أنّ قوّات البحريّة المصريّة خضعت لتحديث كبير وزيادة في طاقتها في السنوات الأخيرة، إذ قامت أحواض بناء السفن الفرنسيّة والألمانيّة والإيطاليّة والصينيّة بتلبية الطلبات المصريّة، وتتطلّع البحريّة المصريّة الآن إلى شراء نوع جديد من الغوّاصات.
في السياق ذاته، كشفت تقارير إسرائيلية عمّا سمّته أسرار تجارب إطلاق الصواريخ المصريّة ومنصّات الإطلاق المتطوّرة في قلب الصحراء المصريّة.
شكّل خطاب الرئيس المصريّ عبدالفتّاح السيسي في القمّة العربية – الإسلامية في الدوحة محطةً لافتة
التّفوّق العدديّ مقابل التّفوّق النّوعيّ
تزامنت التصريحات مع التصنيف الدوليّ للجيوش وفق موقع “غلوبال فاير باور”، الذي وضع مصر في المرتبة الـ19 عالميّاً، مقابل المرتبة الـ15 لإسرائيل. من الواضح أنّ الجيش المصريّ يتميّز بتفوّق عدديّ واضح، إذ يضمّ حوالي 440 ألف جنديّ في الخدمة الفعليّة و480 ألفاً في قوّات الاحتياط، ويمتلك ترسانة برّية ضخمة تشمل أكثر من ثلاثة آلاف دبّابة وحوالي واحد وأربعين ألف مركبة عسكريّة، إلى جانب سلاح جوّي متنوّع يضمّ أكثر من ألف طائرة، من بينها نحو 238 مقاتلة و348 مروحيّة، علاوة على أسطول بحريّ واسع الانتشار يضمّ 150 قطعة بحريّة، بينها ثماني غوّاصات و13 فرقاطة.
لكن في المقابل يعتمد الجيش الإسرائيليّ على تفوّق نوعيّ وتكنولوجيّ، مع عدد أقلّ من الأفراد في الخدمة الفعليّة يبلغ نحو 173 ألف جنديّ، واحتياط يُقدّر بـ465 ألفاً. يُعدّ سلاح الجوّ الإسرائيليّ من الأكثر تطوّراً في العالم، ويدعمه سلاح برّيّ لديه قدرات دفاعيّة متطوّرة أبرزها دبّابات “ميركافا”، وأسطول بحريّ صغير نسبيّاً من 65 قطعة يتميّز بكفاية تكنولوجيّة عالية ويشمل ستّ غوّاصات هجوميّة.
الأخطر من ذلك أنّ إسرائيل تُعدّ القوّة النوويّة الخامسة عالميّاً، ففي حيازتها رؤوس نوويّة يصل مداها إلى 1,500 كيلومتر على صواريخ “أريحا”، إضافة إلى قنابل نوويّة جوّيّة، على الرغم من عدم اعترافها بامتلاكها. بطبيعة الحال، ستسعى إسرائيل إلى إيجاد وسائل وسبل كي تحافظ على هيمنتها العسكريّة لأطول مدى زمنيّ ممكن.
سعي مصريّ لكسر معادلة القوّة
يبدو واضحاً أنّ مصر، من خلال رفع مستوى تسليحها، تسعى إلى كسر احتكار إسرائيل لمعادلة القوّة في المنطقة، والتحوّل إلى قوّة ردع تعتمد على قدراتها الذاتيّة وتنويع مصادر تسليحها، بما يضمن عدم ارتهانها لمشيئة أيّ طرف خارجي.
لم تكتفِ مصر بتوجيه رسائل واضحة إلى إسرائيل، بل أرفقتها برسائل مشابهة إلى أميركا
تدرك القاهرة حجم “زنّار النار والفوضى” الذي يطوّقها من كلّ الاتّجاهات، وتقرأ في المشروع الإسرائيلي خطراً يتجاوز حدود فلسطين ليطال المنطقة بأسرها، بما فيها مصر نفسها. وقد عبّر السيسي في خطابه الأخير عن هذه الهواجس والأخطار بلهجة مباشرة وحادّة.
مع ذلك، تؤكّد مصر أنّ التزامها خيار السلام لا يعني التخلّي عن وزنها الجيوسياسي أو عجزها عن حماية أمنها القوميّ بجيش قويّ ذي أبعاد شاملة وتسليح متنوّع. التحديث العسكري، إلى جانب مسار التنمية في سيناء، يُقدَّم على أنّه يهدف أساساً إلى ترسيخ الاستقرار الإقليميّ، لا إلى تهديد الجوار.
لكنّ الرسالة المبطّنة لإسرائيل تبقى واضحة: إنّ تمسّك القاهرة باتّفاق كامب ديفيد لا يلغي استعدادها للردّ على أيّ خرق أو مساس بالسيادة المصريّة. والعبارة الأقرب التي يمكن تلخيصها بها هي: “لا تجرّبونا”.
إقرأ أيضاً: التنسيق المصري- السعودي: صناعة الموقف العربي..
المعادلة الراهنة، القائمة على التفوّق العدديّ لمصر مقابل التفوّق النوعيّ لإسرائيل، أسهمت حتّى الآن في الحفاظ على قدر من الاستقرار النسبي. غير أنّ البيئة الإقليميّة المتحرّكة والمشحونة بالتحدّيات تجعل هذه المعادلة قابلة للاهتزاز في أيّ لحظة، وما يصحّ اليوم قد ينقلب إلى نقيضه غداً.
