في لحظة تاريخيّة يمرّ بها لبنان، تتداعى فيها مؤسّساته تباعاً تحت وطأة الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، يقف الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي على مفترق طرق خطير. يبدو للبعض أنّ انهيار الصندوق تفصيل ثانويّ مقارنة بانهيار النظام المصرفيّ أو عجز الدولة الماليّ، لكنّه في الواقع يُمثّل الحدّ الفاصل بين مجتمع ما زال قادراً على حماية فئاته الأكثر هشاشة، ومجتمع يترك مواطنيه لمصيرهم العاري من أيّ حماية.
لم يكن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يوماً مؤسّسة مثاليّة، لكنه كان دائماً الملاذ الأخير لشرائح كبيرة من العمّال والأسر في مواجهة الشيخوخة والمرض والعجز. يعني انهياره ببساطة قطع آخر خيط يربط المواطن بالدولة. لكنّ ما نشهده اليوم هو تآكل بطيء، وربّما مقصود، لهذه المؤسّسة. سنوات من سوء الإدارة، التسييس، المحسوبيّات، والتأجيل المتعمَّد للإصلاحات جعلت الصندوق أشبه بـ”بيت من الرمال”، قائم في الشكل، وهشّ في الجوهر.
القانون 319: وعود كبيرة وتنفيذ هزيل
عندما أُقرّ القانون 319 في أواخر عام 2023، استبشر الكثيرون خيراً. أتى القانون ليعالج مكامن الخلل المزمنة عبر ثلاث ركائز أساسيّة:
1- إصلاح الحوكمة: تقليص عدد أعضاء مجلس الإدارة من 28 إلى 10 فقط، بينهم خبراء يُفترض أن يكونوا مستقلّين، وإنشاء لجنة استثمار لإدارة أموال الصندوق بطريقة مهنيّة.
2- إصلاح نظام التقاعد: الانتقال من نظام “تعويض نهاية الخدمة” (دفعة واحدة عند التقاعد) إلى نظام معاشات شهريّة مستدامة تضمن حدّاً أدنى من الكرامة للمتقاعدين.
3- رقمنة وتحديث الإدارة: فرض إنشاء أنظمة رقميّة متكاملة لضبط الاشتراكات والمدفوعات، بما يحدّ من التهرّب والفساد ويزيد الشفافيّة.
يبدو للبعض أنّ انهيار الصندوق تفصيل ثانويّ مقارنة بانهيار النظام المصرفيّ أو عجز الدولة الماليّ
لكنّ ما كان يُفترض أن يكون نقطة تحوُّل، تحوّل بسرعة إلى نسخة معطوبة من الإصلاح. فبدلاً من اختيار مجلس إدارة ذي كفاية ومستقلّ، عاد منطق المحاصصة السياسية والنقابية ليحكم اللعبة. مجلس الخدمة المدنية، الذي كان يُفترض أن يلعب دور الحكَم النزيه، جرى تهميشه. أمّا لجنة الاستثمار التي يُعوَّل عليها، فما زالت حبراً على ورق. وبينما انتظر الناس صدور المراسيم التطبيقية التي تجعل القانون نافذاً، مرّ عامان بالكامل ولم يُنجز إلّا القليل. النتيجة: قانون موجود، لكن بلا فعّاليّة.
أزمة التّمويل: قنبلة موقوتة
أيّ إصلاح للضمان الاجتماعي يظلّ بلا قيمة إذا لم يُعالج أصل الداء: أزمة التمويل. فالنظام الحاليّ قائم على اشتراكات العمّال وأصحاب العمل. لكنّ الواقع يُظهر أنّ:
1- نسبة كبيرة من أرباب العمل يتخلّفون عن سداد الاشتراكات بانتظام.
2- الحكومة نفسها، أكبر ربّ عمل، متخلّفة عن تسديد ما عليها من مستحقّات بمليارات الليرات.
3- التضخّم المتسارع ابتلع القيمة الفعليّة للمساهمات والمنافع على حدّ سواء.

هكذا تحوّل الصندوق إلى “بئر من المتأخّرات” بدلاً من أن يكون مظلّة حماية. من أخطر ما يتضمّنه المشروع الجديد هو محاولة تمرير شطب منظّم لحقوق العمّال. وفق المقترحات الأخيرة، تُخفض الفوائد المستحقّة إلى نصف قيمتها مقارنة بما كانت عليه في 2019. الأسوأ أنّ نحو 56% من الالتزامات تُحوَّل إلى خزينة الدولة، وهي أصلاً عاجزة عن الإيفاء بالتزاماتها تجاه الصندوق. هذا لا يُسمّى إصلاحاً، بل هو تحميل العمّال عبء الخسائر بدلاً من معالجة جذور المشكلة. إنّها محاولة لإضفاء الشرعيّة على الخسارة وتحويلها إلى واقع مؤسّسي دائم.
التّحدّيات الماثلة أمام الإصلاح
يمكن تلخيص أبرز التحدّيات التي تواجه أيّ محاولة جدّيّة لإصلاح الضمان الاجتماعي في لبنان كما يلي:
1- غياب الإرادة السياسيّة: كلّ إصلاح يُفرغ من مضمونه عند اصطدامه بجدار المحاصصة الطائفيّة والحزبيّة.
2- التأجيل المتعمَّد: غياب المراسيم التطبيقية دليل على سياسة “دفن الوقت” التي يتقنها النظام.
3- تسييس مجلس الإدارة: تحويل مجلس الإدارة إلى ساحة صراع بين ممثّلي العمّال وأصحاب العمل، بدلاً من أن يكون هيئة خبراء مستقلّة.
يعني انهيار الضمان الاجتماعي ببساطة أنّ لبنان فقد آخر مظاهر الدولة الراعية، وسيفتح الباب على مصراعيه لمزيد من الفوضى الاجتماعية
4- الفساد وسوء الإدارة: من دون شفافيّة ورقابة فعليّة، ستبقى أموال العمّال عرضة للهدر أو الاستغلال.
5- فقدان الثقة: الثقة هي رأس المال الحقيقيّ للصندوق. وإذا تلاشت فسيتوقّف العمّال عن الاشتراك وسيتملّص أصحاب العمل من التزاماتهم، فينتهي النظام بانهيار ذاتيّ.
6- أزمة الاقتصاد الوطنيّ: كيف يمكن ضمان استدامة أيّ نظام تقاعديّ في ظلّ اقتصاد منهار، عملة متهاوية، ودولة عاجزة عن تحصيل الإيرادات أو ضبط الإنفاق؟
لماذا إنقاذ الضمان الاجتماعيّ ضرورة وطنيّة؟
قد يُغري البعض القول إنّ الأولويّة يجب أن تُعطى للمصارف أو للخزينة العامّة أو لبرامج إعادة الإعمار. لكنّ الحقيقة أنّ الضمان الاجتماعي هو في قلب الاستقرار الاجتماعي.
يعني انهيار الضمان الاجتماعي ببساطة أنّ لبنان فقد آخر مظاهر الدولة الراعية، وسيفتح الباب على مصراعيه لمزيد من الفوضى الاجتماعية.
ما المطلوب من صنّاع السّياسات؟
1- إصدار فوريّ للمراسيم التطبيقيّة: لا يمكن للقانون 319 أن يُحدث فرقاً من دون ترجمة عمليّة.
2- تسديد متأخّرات الدولة: على الحكومة أن تبدأ بنفسها وتدفع ما عليها للصندوق.
3- تفعيل لجنة الاستثمار المستقلّة: يجب أن تضمّ خبراء ماليّين مستقلّين بعيداً عن الولاءات الحزبيّة.
4- إعادة الاعتبار لمجلس الخدمة المدنيّة لتكون جهة حكم وضبط في التعيينات.
5- حماية الحقوق المكتسبة: أيّ محاولة لشطب حقوق العمّال ستُفجّر الشارع.
ليس إنقاذ الضمان الاجتماعي حمايةً للعمّال والمتقاعدين فقط، بل هو الخطوة الأولى في مسار إعادة بناء لبنان
6- خطّة تمويل واقعيّة: ربط الإصلاح بخطّة اقتصاديّة أوسع تشمل مكافحة التهرّب من الاشتراكات وتحسين الجباية، وربّما إدخال مساهمات من المجتمع الدوليّ في مرحلة انتقاليّة.
7- إصلاح ثقافة الإدارة من خلال الرقمنة، الشفافيّة وتطوير نظام تدقيق داخليّ وخارجيّ فعّال.
إقرأ أيضاً: الاقتصاد اللّبنانيّ: مواجهة الأزمة أو الانتحار البطيء
يقف الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي اليوم بين أن يكون قصّة أمل أو قصّة تحذير. لم يعد يحتمل لبنان “إصلاحات شكليّة”، ولا بدّ من إصلاح حقيقي، جادّ وشفّاف، ونظامٍ يحمي الناس بدلاً من أن يُحمّلهم كلفة الفشل، وضمانٍ اجتماعيّ يُعيد بعضاً من معنى الدولة. ليس إنقاذ الضمان الاجتماعي حمايةً للعمّال والمتقاعدين فقط، بل هو الخطوة الأولى في مسار إعادة بناء لبنان.
* باحث مقيم لدى كلّية سليمان العليان لإدارة الأعمال (OSB) في الجامعة الأميركيّة في بيروت (AUB).
