في لحظة تاريخيّة مشحونة بارتعاشات السياسة والأمن، اجتمع القادة العرب والمسلمون وضيوفهم في قمّة الدوحة الطارئة 2025. قد تبدو القمم في ظاهرها منصّات بروتوكوليّة تتناوب على الخطابات، لكنّ هذه القمّة بالتحديد حملت معها ما يتجاوز الطقوس. لقد جاءت مباشرة بعد قصف إسرائيلي استهدف قطر، الأمر الذي منح الكلمات التي أُلقيت بريقاً خاصّاً، وكأنّها شُحنت بطاقة مضاعفة بين السطور، فأصبح ما لم يُقَل يوازي ما قيل، بل ويستكمله.
أوّل ما يمكن التقاطه من بين ثنايا الكلمات هو الشعور الجمعيّ بأنّ الأمّة، على الرغم من تمزّقها السياسي، ما تزال تملك “مخيالاً موحّداً” يتّسع لجرحها ومقاومتها ورغبتها في العدل. كان الحضور العربي والإسلامي لافتاً، ليس بالعدد فقط، بل بتقاطع المعاني: من يتحدّث عن فلسطين كان يُسمَع في صوته صدى عن السودان واليمن وسوريا، ومن يدافع عن سيادة قطر كان يُعيد في لاوعيه سرديّة طويلة عن استقلال القرار السياسي في المنطقة.
ثلاث إشارات
قال غرامشي يوماً: “تكمن الأزمة في أنّ القديم يموت والجديد لم يولد بعد”. وهذا ما بدت عليه قمّة الدوحة: عالم عربي وإسلامي يعرف أنّ النظام الدولي يتصدّع، لكنّه لم يبلور بعد شكل النظام الذي يريد أن يسكنه. ولهذا جاءت كلمات القادة المسلمين وكأنّها محاولة لرسم ملامح هذا “الجديد” الغائب، عبر ثلاث إشارات رئيسة:
1- التموضع الأخلاقيّ: بدا واضحاً أنّ القمّة أرادت أن تقول إنّ السياسة ليست براغماتية عمياء، بل هي أيضاً حقل للأخلاق. ولذلك استُحضرت لغة العدالة والإنسانية، ليس فقط في ما يتعلّق بفلسطين، بل حتّى في مناقشة ملفّات التنمية والتغيّر المناخي. يُعيد هذا التوسيع للخطاب إلى الأذهان ما كتبه الفيلسوف الألمانيّ هابرماس عن “العقل التواصليّ”، أي قدرة اللغة على أن تكون أفقاً للمشترك الإنساني، لا أداة نفوذ وحسب.
في السياق السياسيّ، بدت قمّة الدوحة أيضاً بمنزلة محاولة لإعادة وصل ما انقطع بين الشعوب والأنظمة
2- توازن القوى الإقليميّ: كلمات القادة لم تكن تضامناً مع قطر بعد استهدافها وحسب، بل كانت رسائل سياسية تقول إنّ زمن استفراد دولة صغيرة أو محاصرتها قد انتهى. كانت كلّ كلمة تضامن في جوهرها رسالة مضادّة لفكرة العزلة. وبقدر ما حاول الخطباء أن يلتزموا بلباقة الدبلوماسية، كان واضحاً أنّ ثمّة إحساساً عامّاً بأنّ العالم يتغيّر، وأنّ “المظلوميّة التاريخيّة” للعرب والمسلمين في السياسة الدولية تحتاج إلى إعادة صياغة أدوات المواجهة.

3- التحدّيات الأمنيّة والسياسية التي تحيط بالمنطقة: شدّدت كلمات القادة على أنّ ما يواجهه المسلمون اليوم ليس خلافات حدودية أو نزاعات محليّة فقط، بل شبكة معقّدة من الضغوط والصراعات الإقليمية والدولية. لذلك جاءت الدعوة إلى التعامل مع هذه التحدّيات بعقلانيّة ورؤية استراتيجيّة، مع تأكيد أنّ غياب التنسيق أو استمرار التباين في المواقف سيضاعف من هشاشة الموقف الجماعي. من هنا بدت القمّة وكأنّها منصّة لتحذير مبطّن من أنّ مستقبل المنطقة يتوقّف على مدى القدرة على إدارة هذه الملفّات الأمنيّة والسياسية الحسّاسة بحكمة ومسؤوليّة.
وصل ما انقطع بين الشّعوب والأنظمة
في السياق السياسيّ، بدت قمّة الدوحة أيضاً بمنزلة محاولة لإعادة وصل ما انقطع بين الشعوب والأنظمة. كانت الجماهير التي تتابع القمّة عبر الشاشات تتوقّع خطاباً يتجاوز “المألوف”، وقد جاءت بعض الكلمات لتمنحهم شيئاً من هذا التوقّع. لم يكن ذلك في مضمون القرارات الرسمية بقدر ما كان في النبرة، في الوقفة، في الجرأة على تسمية الأشياء بأسمائها ولو بالحدّ الأدنى.
لكنّ اللافت أنّ القمّة لم تنزلق إلى لغة المواجهة المباشرة مع أحد. بدلاً من أن تتحوّل إلى منبر للتجاذب، تحوّلت إلى مساحة للتلميح الذكيّ، كأنّها أرادت أن تؤكّد أنّ السياسة ليست فقط ما يُقال، بل أيضاً ما يُترك معلّقاً في فراغ يملأه المستمع بتأويلاته. هذا ما يجعل هذه القمّة ذات أثر بعيد المدى، لأنّ الرسائل غير المعلنة تعيش أطول من البيانات الرسمية.
في لحظة تاريخيّة مشحونة بارتعاشات السياسة والأمن، اجتمع القادة العرب والمسلمون وضيوفهم في قمّة الدوحة الطارئة 2025
ثلاثة مخرجات
من زاوية تحليليّة، يمكن القول إنّ قمّة الدوحة 2025 خرجت بثلاثة مخرجات أساسيّة:
1- إعادة تثبيت دور قطر كمركز للوساطات السياسيّة لا يمكن تجاوزه، حتّى في لحظات الاستهداف.
2- إعادة بعث الروح الجماعية في الخطاب الإسلامي، بعد سنوات من التشرذم.
3- تأكيد التحوّلات العالميّة التي تدفع المنطقة للبحث عن مكانها في مشهد جديد متعدّد الأقطاب.
ربّما تكمن القيمة الرمزيّة لهذه القمّة في أنّها لم تكن ردّ فعل على حادث أمنيّ، بل كانت استشرافاً لمستقبل مختلف. إذا كان القصف قد أراد إرسال رسالة قسريّة، فإنّ كلمات القادة ردّت برسالة حضاريّة تقول: “لن تكونوا وحدكم”.
إقرأ أيضاً: قمّة المسلمين في الدوحة: هل تكبح جماح إسرائيل؟
في النهاية، ما يجعل قراءة جديّة هذه القمّة هو إدراك أنّ السياسة ليست توازنات قوى عسكرية وحسب، بل هي أيضاً حقل للمعنى. هذا ما يجعل القمم أشبه بالنصوص المفتوحة: ما يقال فيها مهمّ، لكنّ الأهمّ هو ما تفتحه من احتمالات. قمّة الدوحة 2025 طرحت المشكلة، أمّا الحلّ فهو مشروع جماعيّ مفتوح على الغد.
*كاتب وصحافي أردني
