مع دخول العلاقات مع الغرب مرحلة المواجهة و”انتهاء الرومانسيّة”، على حدّ وصف إحدى الصحف الإيرانيّة، يبدو أيضاً أنّ زمن “الرومانسيّة” والكلام المعسول مع دول الخليج على وشك الانتهاء بالنسبة لإيران، التي تستعيد تدريجاً اللغة “الخشبيّة” التي كانت سائدة قبل اتّفاق بكين الذي وقّعته مع المملكة العربية السعودية في آذار 2023.
صحيح أنّ الاتّفاق كان ثنائيّاً ويتعلّق باستئناف العلاقات الدبلوماسية، لكنّه واقعيّاً كان في ثناياه ومفاعيله خليجيّاً – إيرانيّاً، وينصّ في أحد بنوده على تعهّد إيران بـ”احترام سيادة الدول وعدم التدخّل في شؤونها الداخليّة”، و”بذل كلّ الجهود لتعزيز السلم والأمن الإقليميَّين والدوليَّين”.
استضافت الكويت في الأول من الجاري اجتماعاً خليجيّاً دوريّاً على المستوى الوزاريّ، صدَرَ في ختامه بيانٌ تضمّن المواقف الثابتة لدول مجلس التعاون الخليجي، خصوصاً في 3 ملفّات أساسيّة:
1- تجديد إدانة استمرار الاحتلال الإيراني للجزر الثلاث التابعة للإمارات (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى)، واعتبار أيّ قرارات أو ممارسات أو أعمال تقوم بها إيران على الجزر الثلاث باطلة ولاغية ولا تغيّر شيئاً من الحقائق التاريخية والقانونية.
2- تأكيد الموقف الثابت بشأن ملكيّة حقل الدرّة (للغاز) الذي يقع بأكمله في المناطق البحريّة للكويت، وأنّ ملكيّة الثروات الطبيعية في المنطقة المغمورة المقسومة المحاذية للمنطقة المقسومة السعوديّة – الكويتيّة، بما فيها حقل الدرّة بكامله، هي ملكيّة مشتركة بين السعودية والكويت فقط، ولهما وحدهما كامل الحقوق لاستغلال الثروات الطبيعية في تلك المنطقة، مع التشديد على الرفض القاطع لأيّ ادّعاءات بوجود حقوق لأيّ طرف آخر في هذا الحقل.
3- تشديد على ضرورة استمرار المفاوضات للتوصّل إلى حلّ شامل لملفّ إيران النوويّ، وأن تشمل المفاوضات كلّ القضايا والشواغل الأمنيّة لدول مجلس التعاون.
مصدر دبلوماسي خليجي لـ”أساس”: نحن ما نزال نأخذ على محمل الجدّ ما يصلنا من رسائل من الحكومة الإيرانية برئاسة (مسعود) بزشكيان
هستيريا إيرانيّة
ليست هذه الثوابت الخليجية جديدة ولا توجد فيها عبارة إضافية إلى المواقف السابقة المُعلنة، لكنّ المفاجأة كانت في الردّ الإيراني بسقف مرتفع عن المألوف، مع إصدار وزارة الخارجيّة بياناً تحدّثت فيه عن “رفض قاطع” لما وصفته بـ”الادّعاءات الباطلة والمتكرّرة” بشأن الجزر الثلاث، واعتبرت أنّها “تصريحات تدخّلية” في شؤونها، ملوّحة بأنّها “ستتّخذ كلّ ما يلزم لضمان الأمن والسلامة في هذه الجزر الإيرانية وحماية مصالحها داخل حدودها، بما يتماشى مع ممارستها لحقوقها السياديّة”.
كان السقف مرتفعاً أيضاً في ما يتعلّق بجزئيّة حقل الدرّة، الذي أشار البيان الإيراني إليه بالتسمية الفارسية “آرش”، زاعماً أنّ ما وصفه بـ”الادّعاءات الأحاديّة” بشأنه “باطلة (..) ولا تُنشئ أيّ حق للحكومة الكويتية من الناحية القانونية”.
أضافت إيران في بيانها الهستيريّ أنّ “التوصّل إلى اتّفاق عادل ودائم بشأن حقل آرش يتطلّب حواراً ثنائيّاً وجهوداً مشتركة، وتهيئة مناخ إيجابيّ وبنّاء لحماية وضمان الحقوق والمصالح المتبادلة”.
حسابات داخليّة
انتهى الأمر عند هذا الحدّ ولم تُصدر الكويت أو مجلس التعاون الخليجي بياناً للردّ على الموقف الإيرانيّ، بيدَ أنّ ذلك لا يُخفي “وجود استياء خليجيّ” من طهران، التي “صدّعت رؤوسنا بالكلام المُنمّق” عن رغبتها بعلاقات حسن جوار جيّدة، “من دون أن تتّخذ أيّ خطوة عمليّة ملموسة” لحلّ الملفّات العالقة مع دول الخليج، على حدّ وصف مصدر دبلوماسيّ خليجيّ في الكويت.
حجّة إيران في ترسيم الحدود ضعيفة، فهي تدّعي أنّ حدودها البحريّة تمتدّ من الجرف القارّيّ استناداً إلى قانون البحار المفتوحة، في حين تتمسّك الكويت بقانون البحار المُغلقة
أوضح المصدر لـ”أساس” أنّ دول الخليج لا تريد توتير العلاقات مع إيران، لكنّها تلقّت مضامين البيان الأخير “باستياء كبير”، لأنّه يستعيد “اللغة الإيرانيّة الخشنة” التي كانت سائدة قبل اتّفاق بكين، معتبراً أنّ ما ورد في البيان عن الحوار هو “كلام في الهواء لا مفاعيل له”، لأنّ الكويت منذ سنوات تؤيّد إجراء حوار ثنائيّ مع إيران بل تدعو إليه في كلّ المناسبات والاجتماعات الثنائية، لكنّ الطرف الإيرانيّ يتهرّب منه لإدراكه ضعف أوراقه على الطاولة، لسببين رئيسيَّين:
- الأوّل: أنّ طهران تريد التفاوض على حقل الدرّة، في حين تتمسّك الكويت بالقانون الدولي والمنطق السياسي الذي يقول إنّ ترسيم الحدود البحريّة يأتي أوّلاً ثمّ الحديث عن الثروات وحقوق كلّ طرف.
- الثاني: أنّ حجّة إيران في ترسيم الحدود ضعيفة، فهي تدّعي أنّ حدودها البحريّة تمتدّ من الجرف القارّيّ استناداً إلى قانون البحار المفتوحة، في حين تتمسّك الكويت بقانون البحار المُغلقة الذي يقضي بأن تبدأ حدود إيران من البرّ وليس من الجرف القارّيّ.
وعمّا إذا كانت دول الخليج تقرأ في البيان الإيرانيّ تغيّراً في الموقف، اعتبر المصدر أنّ الأمر يتعلّق بحسابات إيرانية داخليّة أكثر منها حسابات خارجيّة، فالحكومة الإيرانية تعيش أزمة غير مسبوقة منذ 1979 بعد حرب الـ 12 يوماً، وتخشى سيناريو مماثلاً في وقت ليس ببعيد، وما يهمّها هو شدّ العصب القوميّ وحماية الجبهة الداخلية من التصدّعات والشقوق التي بدأت تظهر كمفاعيل لنتائج الضربة الإسرائيلية – الأميركية، والتشدّد الأوروبي المُستجدّ، وآخرها انتقاد الرئيس السابق المعتدل حسن روحاني لمن وصفهم بـ”مجموعة من المتشدّدين الذين عطّلوا مصالح إيران الوطنية بأوهامهم السياسية”، متّهماً إيّاهم بإلحاق أضرار جسيمة بالاقتصاد الإيراني، في إشارة إلى منع حكومته في 2021 من إحياء الاتّفاق النووي، خلال مفاوضات مع إدارة بايدن.
إقرأ أيضاً: الكويت تحيي المجلس التّأسيسيّ الاستقلاليّ؟
ختم المصدر الدبلوماسي الخليجي حديثه لـ”أساس” بالقول: “نحن ما نزال نأخذ على محمل الجدّ ما يصلنا من رسائل من الحكومة الإيرانية برئاسة (مسعود) بزشكيان، لكن لا توجد مؤشّرات إلى خطوات عمليّة للتقارب، ويبدو طريق التقارب مسدوداً، أقلّه على المدى القصير”.
