لإسرائيل الكبرى مروّجون في الأوساط الصهيونية، وفي مقدَّمهم حاليّاً بنيامين نتنياهو، وإن لم يأتِ على ذكرها مؤسّس الحركة الصهيونية تيودور هرتزل الذي ركّز في كتابه على دولة اليهود. لاحقاً توسّع منظّرو الصهاينة الأكثر تشدّداً بالكلام عن إسرائيل الكبرى استناداً إلى الدين والتاريخ لتبرير التوسّع وجلب التأييد.
من أوغندا وأماكن أخرى، استقرّ الرأي على فلسطين، أرض الميعاد. وجاء إعلان بلفور والانتداب البريطاني لينقل الأقوال إلى أفعال. لكن سرعان ما حدّدت بريطانيا النطاق الجغرافي لإسرائيل بإعلان شرق الأردن مطلع العشرينيّات كيانَ دولةٍ منفصلاً للحدّ من طموحات الحركة الصهيونية.
انطلق المشروع الصهيوني بكلّ الوسائل: استقدام اليهود، خصوصاً من أوروبا الشرقية وروسيا، إلى فلسطين على قاعدة أنّها أرض بلا شعب وفق السرديّة الصهيونية، شراء الأراضي وبناء المستوطنات حيث أمكن. وسرعان ما وقع الصدام مع الفلسطينيّين أوّلاً ثمّ مع بريطانيا والعرب.
في 1948 باتت لإسرائيل دولة بعد حرب خسرها العرب. وفي حرب 1956 خسرت إسرائيل رهانها بالتحالف مع بريطانيا وفرنسا ورضخ الثلاث للقرار الأميركي بالانسحاب غير المشروط. أمّا في حرب 1967 فاحتلّت إسرائيل كامل فلسطين والجولان وسيناء، وبدت منيعة بدعم الداخل والخارج. وجاءت حرب 1973 لتكسر مقولة “إسرائيل حصن منيع” ولتبدّد مفاعيل هزيمة 1967.
المفارقة أنّ دُعاة الإزالة من الجانبين تحرّكهم الاعتبارات الدينية. إذا كانت دوافع المواجهة دينيةً فهي بالتالي مشتركة بين المتصدّين للاحتلال والمحتلّين
مسار السّلام
مسار آخر بدأ بعد حرب 1973 وأنتج معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل برعاية أميركية. هكذا تحدّدت الأولويّات: مصر استعادت أرضها المحتلّة وإسرائيل أرست المعادلة مع الفلسطينيّين وفق مفهوم مناحيم بيغن: حكم ذاتيّ في الأراضي المحتلّة مقابل التسوية مع مصر. وفي 1982 اجتاحت إسرائيل لبنان وأخرجت المنظّمات الفلسطينية. وجاءت انتفاضة الحجارة لتضع إسرائيل في مأزق لم يكن في الحسبان.
إلّا أنّ المستجدّات الفاصلة هذه المرّة جاءت من خارج إطار النزاع العربي – الإسرائيلي: هزيمة صدّام حسين بعد حرب تحرير الكويت بغطاء دوليّ وقيادة أميركية. انطلاقة جديدة قامت بها واشنطن، معزّزة بانتهاء الحرب الباردة، ألزمت إسرائيل بالدخول في مفاوضات سلام مهّدت لاتّفاق أوسلو في 1993. سلام وكلام بين الفلسطينيّين وإسرائيل سرعان ما انتهيا بعد اغتيال إسحق رابين. وعادت الكرة إلى ملعب التطرّف بقيادة نتنياهو الذي نادى بالسلام مقابل القضاء على حلّ الدولتين.

باختصار، إسرائيل توسّعيّة بالفطرة، وإذا استطاعت بسط نفوذها في أيّ مكان فلن تتردّد. إلّا أنّ قدراتها محدودة عسكريّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً، وهي مكبّلة بلا دعم أميركا. وعلى الرغم من القتل والتجويع اللذين تمارسهما حاليّاً لا تقدر على تطويع “حماس” أو تهجير أهل غزّة، وواشنطن غير قادرة على حمل مصر والأردن على القبول بالتهجير الجماعيّ تلبيةً لرغبات نتنياهو.
أمّا المتاح اليوم بنظر إسرائيل فيتمثّل بالسيطرة على كامل فلسطين والجولان ومحيطه بعد سقوط نظام الأسد. وفي لبنان احتلّت إسرائيل أراضي واسعة في الجنوب لأكثر من عقدين ولم تبنِ مستوطنات أو “تخلق وقائع” توراتيّة لتبرير الاستيلاء العقائديّ مثلما فعلت في فلسطين والجولان. وهي أيضاً انسحبت من غزّة لا لأنّ أرييل شارون أراد تعزيز فرص السلام بل لأنّ احتلال غزّة لم يعد مجدياً.
إسرائيل توسّعيّة بالفطرة، وإذا استطاعت بسط نفوذها في أيّ مكان فلن تتردّد
الإزالة ممكنة
في المقلب الآخر، إزالة اسرائيل تبدو ممكنة من منظار حركة “حماس” و”الجهاد الاسلامي” وإيران وسواهم باسم الدين أو القوميّة أو لمحاربة الإمبرياليّة والاستكبار. والاعتقاد السائد في هذه الأوساط أنّ إسرائيل على شفير الهاوية أو الاستسلام، بينما هي في أقصى حدّ من النفوذ والاستشراس وإن كلّف ذلك الصدام بين الحكومة والمؤسّسة العسكرية.
من جهتها السلطة الوطنيّة في مسار مختلف تعود جذوره إلى منظّمة التحرير بقيادة ياسر عرفات الذي قاوم إسرائيل ثمّ هادنها ما دامت إزالتها غير ممكنة. في المقابل، دُعاة الإزالة يستحضرون التاريخ والدين، منذ زمن الصليبيّين إلى حقبة الاستعمار، وصولاً إلى حتميّة انتصار الأمّة الآتي للفصل بين الحقّ والباطل. لكن في زمن الدولة الوطنية والتحوّلات الكبرى في المنطقة والعالم، فقدَ الإنكار أو التلطّي بالماورائيّات مدّة استعماله، فالوقائع مغايرة في الزمان والمكان، من النكبة إلى النكسة، وصولاً إلى الإبادة الراهنة.
الاعتبارات الدّينيّة خلف دعوات الإزالة
“طوفان الأقصى”، بما هو امتداد لمقاومة بدأت مع الحاج أمين الحسيني في الثلاثينيّات ثمّ ياسر عرفات، وبينهما مقاومون كثر، وصل إلى طريق مسدود لأسباب مرتبطة بموازين القوى. واللافت أنّ إيران، التي تزايد على مناصريها في المنطقة، تتفاوض مع “الشيطان الأكبر” وعبره مع إسرائيل، لا سعياً إلى السلام بل نصرة لمصالحها. والسؤال إلى أين من هنا؟
المفارقة أنّ دُعاة الإزالة من الجانبين تحرّكهم الاعتبارات الدينية. إذا كانت دوافع المواجهة دينيةً فهي بالتالي مشتركة بين المتصدّين للاحتلال والمحتلّين. وفي هذا الصراع المحتدم بين أرض الميعاد وأرض الجهاد، الضحايا هم العباد. مفاعيل الأيديولوجية باتت من الماضي، كما في حالة إسرائيل الكبرى، صنيعة الأحلام. والأوهام لا مكان لها إلّا في مخيّلة مريديها من دعاة الثورة بوجه المؤامرة المستمرّة.
إقرأ أيضاً: المقاومة وإسرائيل: العنف لتبرير العنف
تتواصل الدوّامة فصولاً بين ميعاد وجهاد. يظلّ الماضي مجيداً والحاضر أسير الأزمات والمستقبل بين يدَي قارئي الفنجان ما دامت الإزالة المتبادَلة من الإيمان.
