المتغيّرات بين سايكس- بيكو ويالطا وألاسكا

مدة القراءة 6 د

لم يكن خيار ألاسكا لعقد القمة الأميركية-الروسية، صدفة أبداً. التقى الرئيسان دونالد ترامب وفلاديمير بوتين في جوّ ودود. هو أقرب إلى جلسة علاقات مجتمعيّة. كسرت القمّة العديد من الأعراف، والتقاليد الدبلوماسية. قد تكون هذه الأساليب مقدّمة لتجديد وتغيير بعض المفاهيم الدولية التي بُنيت عليها مقاليد النظام الأممي المعاصر، لا سيما منها الإشكاليّة التي تدور بين عدميّة التسليم بضمّ الأراضي بالقوّة، وبين ضرورة الحفاظ بواقعيّة على ما تملك وما هو محقّق. فهل تنجح مراحل ما بعد القمّة؟

 

ألاسكا قمّة المدخل واللاقرار

انطلقت الحرب الباردة عام 1945، بعد موت تيودور روزفلت. كان ضدّ الوجود الأميركي في القارّة الأوروبية، ولا يحبّذ الحرب مع روسيا. ينطبق الأمر نفسه على ترامب، فهو لا يهوى التصادم مع روسيا البوتينيّة، ولا يستبعد تقليص الوجود الأميركي في أوروبا. يخطّط بوتين لزيادة الندوب بين الولايات المتّحدة وأوروبا، ويركّز على كيفية الهروب من العقوبات والحفاظ على ضرّاء العلاقة الصينية الروسية، فيما يصمّم ترامب مسوّدة حصار الصين عبر روسيا مع طمأنة ترويضيّة أوروبيّاً وشراكة ندية عربية.

تريد القارّة الأوروبية الخلاص من الحرب والتهديد. ترغب في اعتلاء المركب الأطلسي والأميركي المصمَّم لإنهاء الصراع. يتمّ ذلك مع استمرار تقليص فجوات المقاربة مع الأميركيين عبر المرونة والتنازلات المعقولة، في سبيل بلوغ الخواتيم النافعة التي قد تنهي الحرب المستعرة على الحدود بين روسيا وأوكرانيا.

وضع الرئيس ترامب القادة الأوروبيين في قلب اللعبة الكبرى. كان صريحاً معهم على الرغم من نظرته المريبة إليهم. نسّق معهم لقاء ألاسكا، قبل دعوة عدد من زعمائهم إلى الأبيض للقاء موسّع مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. وأشركهم مباشرة بالمرحلة الثانية والجوهرية من المبادرة، التي بدأت بعد ألاسكا مباشرة. أراد تحويلها من جولة ثنائية إلى عالمية. تتتابع فيها ولأجلها الاجتماعات الأوروبية والأطلسية والأوكرانية والأميركية والروسية.

ستكون القمّة امتحاناً لدور أميركا القياديّ في عالم متعدّد الأقطاب وتجربة مشهودة لنوايا وغموض عقل بوتين وخاصّة في ما يتعلّق بمستقبل أوكرانيا

ألاسكا عصر نفوذ جديد

تعيد قمّة ألاسكا فتح عصر مناطق النفوذ؟

يريد ترامب احتواء المعسكر الشرقي بكين – موسكو. يعمل على فصل طهران عنه. ينتظر العالم أن تفرز الظروف مثيلاً شبيهاً بثلاثيّ يالطا. قد يكون مدخلاً إلى مجالسة تاريخية بين القادة الكبار. تماماً كما حصل مع روزفلت وجوزيف ستالين ووينستون تشرشل في مؤتمر يالطا لسنة 1945. فيما يناقش بوتين ضمنيّاً المفهوم المفسّر لحقيقة اختيار ألاسكا مكاناً للّقاء. فعنوان المكان هو التوسّع في نفوذ الأراضي الأميركية، لا سيما مع كلام ترامب المستمرّ عن شهوته الاستيلائيّة على غرينلاند وكندا وبنما من جديد.

يعلم بوتين طموح ترامب إلى تعزيز الوجود الأميركي في نصف الكرة الأرضية الشمالي. يلعب معه اللعبة نفسها، فيما الهدف معاكس من أوكرانيا وأوروبا والصين. قد تكون إيران هي القربان الروسيّ. فيما لم تفهم إلى الآن الرغبة الروسيّة اتّجاه الصين، وما إمكان اقتراب الرؤية الروسيّة للصين إلى مستوى القراءة الأميركية.

ألاسكا

هل تعيد أميركا تجربتها السابقة بطريقة عكسيّة؟ فأميركا نيكسون ليست أميركا ترامب، فيما أضحت الصين مختلفة، والأمر عينه ينطلي على روسيا البوتينيّة التي لا تشبه تلك السوفيتية إلّا من ناحية النوايا. لذلك حملت قمّة ألاسكا كلّ أثقال السياسة الدولية. وأُعطيت بعداً أكثر من اللازم. فهي لا تشبه قمّة يالطا في العمق، إلّا من ناحية تغييب الطرف الأوروبي، ولا تمتّ إلى اتّفاق سايكس- بيكو بأيّ صلة إلّا من ناحية ثنائية الأطراف فقط.

يالطا وسايكس- بيكو وألاسكا

بالعودة إلى الوراء، نشير إلى أنّه في يالطا:

– كانت أميركا حليفة روسيا، فيما يختلف الأمر اليوم.

– طلب المجتمعون في يالطا الاستسلام غير المشروط من ألمانيا النازيّة حينها، وأن تقسّم إلى أربع مناطق نفوذ. وهو أمر غير متوافر دوليّاً بخصوص أوكرانيا.

يهدف ترامب من خلال قمة ألاسكا إلى التوصّل لحلّ جذريّ في أوكرانيا

– كانت هنالك انتخابات أميركية بعد يالطا، واليوم في أميركا لا يوجد أيّ استحقاق انتخابي.

فيما كان اتفاق سايكس – بيكو:

– معاهدة سرّية لتقسيم مساحات جغرافيّة إلى مناطق نفوذ، قد تصلح لكي تكون دولة فيما بعد. أمّا قمّة ألاسكا فهي اجتماع علنيّ وغير محدّد الأهداف.

– يهدف إلى تقاسم تركة بين طرفين، كانت قمّة ألاسكا مقدّمة لصناعة تفاهمات تشاركيّة متعدّدة الأقطاب.

– ينطلق من مواطن النفوذ لبناء مكتسبات الدول، إلا أنّ قمة ألاسكا تعيد ترتيب النفوذ، ضمن تقليد جغرافيا الدول الثابتة وإن تبدّلت حدودها.

قمّة الأهداف المتناقضة

يهدف ترامب من خلال قمة ألاسكا إلى التوصّل لحلّ جذريّ في أوكرانيا. فيما يعتبر بوتين أنّ هنالك ربحيّة باجتماعه مع ترامب في أميركا، من دون تخلّيات نافرة بشأن الحرب. لقد حقّق بوتين ثلاثة أهداف من ألاسكا:

– خرج من العزلة.

– ماطل بالوقت وتجنّب عقوبات جديدة.

– استغلّ المشيئة الترامبيّة المنادية بإنهاء الحرب عبر الوسائل الدبلوماسية.

ستكون القمّة امتحاناً لدور أميركا القياديّ في عالم متعدّد الأقطاب، وتجربة مشهودة لنوايا وغموض عقل بوتين، وخاصّة في ما يتعلّق بمستقبل أوكرانيا. يكمن الخطر في حالتين:

– توزيع جديد للنفوذ على أسس يالطا ضمن الثلاثي الأميركي الصيني والروسي، وهو ما تعمل أوروبا على مجابهته بشراسة لأنّه مقدّمة لاندلاع حرب باردة جديدة.

– تقاسم نفوذ جديد للدول على طريقة سايكس- بيكو، وهو ما من شأنه الابتعاد عن مفاهيم السلام غير المستقرّة والاقتراب أكثر نحو مصطلح الحدود الملتهبة.

حملت قمّة ألاسكا كلّ أثقال السياسة الدولية وأُعطيت بعداً أكثر من اللازم

ألاسكا وخلط الأوراق والأفكار

خلط هذا الاجتماع الواقع المعاصر مع الماضويّة الغابرة والمؤسِّسة للحاضر. فتحَت نوافذ احتماليّة متحفّظة وثغرات رؤيويّة متيقّظة نحو المستقبل، دمجت فيها عبق كتب التاريخ المطلسمة بالتضاريس الجغرافيّة الحادّة، وربطت جميعها بالصفقات التجارية والعقاريّة القاريّة. تهيّئ لانتهاء عصر قدسيّة وطنيّة الأراضي وأبديّة امتلاكها. تنذر بتبدّل الحدود وتغيّر الموازين، ليس بالقوّة فقط، بل وبالصفقات والاتّفاقات، سواء في البيع والشراء والمبادلات، أو وضع اليد بصيغة الأمر الواقع.

إقرأ أيضاً:  قمّة ألاسكا بين ترامب وبوتين: نتائج بلا اتّفاق

بالفعل، لم تكن قمّة ألاسكا يتيمة، لا بل استُتبعت سريعاً باجتماع عقده ترامب في البيت الأبيض مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بمشاركة زعماء أوروبيين بينهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أعلن ترامب على أثره إنّه بدأ ترتيبات لعقد قمة سلام ثنائية بين بوتين وزيلينسكي، على أن تتبعها قمة ثلاثية يشارك فيها هو بنفسه. وأكد ترامب أن اتفاق السلام بين أوكرانيا وروسيا في المتناول ويمكن تحقيقه في المستقبل القريب.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@ElMehiedine

مواضيع ذات صلة

الانتخابات العراقية: احتدام شيعي وصراع سنيّ على الزعامة

أنهت المكوّنات السياسية العراقية، بأحزابها وتحالفاتها كافة، حملاتها الانتخابية استعدادًا ليوم الحسم المقرر في الحادي عشر من الشهر الجاري. ومع دخول البلاد مرحلة الصمت الانتخابي،…

“الحزب” والدّولة: مساكنة مستحيلة؟

للسيادة مفهوم واحد متعارف عليه دوليّاً، في الأنظمة الديمقراطيّة والسلطويّة كما في الأنظمة الدينيّة والملحدة. في الاتّحاد الأوروبيّ مثلاً، للدول الأعضاء سيادتها ضمن وحدة الموقف…

زهران ممداني.. انتصار بطعم الـ”KFC”

علّق أحد الاصدقاء ساخراً على فوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك: “انتظرنا أن يخرق الأميركيّون اللوائح الشيعيّة في الانتخابات النيابيّة، فاخترق الشيعة الأميركيّين في انتخابات…

بلفور بين وعدين

قبل أيام، مرّت الذكرى الثامنة بعد المئة لوعد بلفور، الصادر في الثاني من نوفمبر عام 1917، حين منحت بريطانيا اليهود في العالم وعدًا بإقامة وطن…