قمّة ألاسكا بين ترامب وبوتين: نتائج بلا اتّفاق

مدة القراءة 6 د

انتهت قمّة ألاسكا بين الرئيسَين الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترامب من دون إعلان أيّ اتّفاق لوقف الحرب في أوكرانيا، ولا تحديد لمجالات التقدّم أو نقاط الخلاف. لكنّ ما بدا فشلاً تفاوضيّاً على السطح تحوّل إلى مكاسب لسيّد الكرملين الذي غادر الأراضي الأميركية وفي جعبته أوراق قوّة إضافية.

 

نجح الرئيس الروسي في تقويض فكرة عزلة موسكو. فبعد عقدٍ من الغياب، عاد إلى الولايات المتّحدة بصفته ضيفاً رسميّاً حظي باستقبال استثنائي: سجّادة حمراء في قاعدة عسكرية، استعراض مثير للطائرات الحربية، وركوب سيّارة ترامب المصفّحة “الوحش”. هذه الرمزيّة، التي جرت على أرض أميركية، منحت بوتين ما لم تحقّقه لقاءات سابقة مع زعماء “بريكس” أو قادة إقليميّين: صورة “الشريك العائد” إلى قلب المعادلة الدولية.

خلال ثلاث ساعات من المحادثات، استطاع بوتين إقناع مضيفه بالتخلّي عن مطلب وقف إطلاق النار الفوريّ في أوكرانيا. تبنّى ترامب، ولو جزئيّاً، فكرة “السلام النهائي” التي تطرحها موسكو، أي معالجة “الجذور العميقة” للنزاع بدل الحديث عن هدنة مؤقّتة. أسقط هذا التحوّل من يد واشنطن ورقة التهديد بعقوبات جديدة، وحرّر موسكو من الضغوط الغربية الرامية إلى وقف الحرب بسرعة.

بوتين أقنع ترامب

بوتين تمكّن أيضاً من إقناع ترامب بأنّ الأوروبيّين وكييف يسعون إلى عرقلة أيّ تسوية، وهو ما انعكس في تصريحات الرئيس الأميركي للصحافيين ولحلفائه. بذلك، خسر الاتّحاد الأوروبي والناتو أيّ دور مباشر في بلورة التسوية المقبلة، وباتت المفاوضات، إن حصلت، تدور بين موسكو وواشنطن فقط.

قبل القمّة، كان ترامب قد تعهّد لحلفائه الأوروبيين عبر اتّصال “فيديو كونفرنس” بثلاثة التزامات: وقف القتال، التحضير لقمّة ثلاثية مع فولوديمير زيلينسكي، وتقديم ضمانات أمنيّة لكييف. لكنّ بوتين نجح في إسقاط التعهدّ الأوّل، تجميد الثاني، وتفريغ الثالث من مضمونه، إذ لم يوافق إلّا على مبدأ “الضمانات” من دون تحديد طبيعتها أو أطرافها.

فتحت القمّة الباب أمام مشاريع مشتركة في مجالات حسّاسة

فتحت القمّة الباب أمام مشاريع مشتركة في مجالات حسّاسة: استثمارات في القطب الشمالي، بناء السفن، المعادن النادرة، وحتّى مشروعات في الأقاليم الأوكرانيّة التي ضمّتها روسيا. تعكس هذه الملفّات الاقتصادية إدراك بوتين أنّ ربط أوكرانيا بالتعاون الروسي– الأميركي قد يحول دون إعادة تسليحها بدعم أوروبي.

التّنازل عن الدونباس بالكامل

لعب بوتين أوراقه جيّداً. بدلاً من التركيز على التسوية المحتملة في أوكرانيا، شدّد على آليّات إعادة الثقة وفتح أبواب التعاون الواسع مع واشنطن، في إطار صفقات كبرى. ذهب إلى ألاسكا معزّزاً عناصر قوّته ومدركاً لنقاط ضعفه. أعدّ ملفّاته وأفكاره وفحَص السيناريوات المختلفة، وصعّد بقوّة في ساحة القتال لرسم واقع ميداني لا يمكن تجاهله عند أيّ انسحابات أو تنازلات إقليمية محتملة. حقّق ما تصبو إليه موسكو بالتمسّك بالخطوط الحمر: لا تنازلات إقليمية، لا تراجع عن مبدأ معالجة الجذور الأصليّة للصراع، لا ضمانات لأوكرانيا إذا لم  تراعِ مصالح روسيا.

أصرّ بوتين على مطلبه القديم: انسحاب أوكرانيا من البقيّة الباقية من أراضي دونيتسك ولوغانسك لإكمال السيطرة الروسيّة على الدونباس، مقابل تجميد القتال في خيرسون وزاباروجيا. ترفض كييف هذا الطرح رفضاً قاطعاً لأنّه يعني التخلّي عن سيادة أراضٍ غنيّة بالمعادن والفحم، تضمّ بنية تحتية استراتيجية وصناعات ثقيلة، وتشكّل بوّابة دفاعية نحو قلب البلاد.

يخشى الأوكرانيون من كارثة إنسانية جديدة وتغيير ديمغرافي في حال خضوع الدونباس للحكم الروسيّ، استناداً إلى سجلّ موسكو في الاعتقالات والانتهاكات في المناطق المحتلّة. رفض التخلّي عن الدونباس هو مسألة وطنية، بالإضافة إلى أنّه قضيّة أمنيّة وإنسانيّة، وليس مساحة جغرافيّة. لا يمنح الدستور الأوكراني أيّ صلاحيّة لأيّ سلطة على التفاوض على التخلّي عن أجزاء من البلاد.

أكبر نتيجة لقمّة ألاسكا هي تحميل أوروبا وأوكرانيا مسؤوليّة أيّ فشل مقبل في المفاوضات

بينما كان بوتين يحصد مكاسب سياسية، بقي الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي متفرّجاً عبر التلفاز، عاجزاً عن التأثير في مسار النقاشات، فيما بلاده تنزف عسكريّاً واقتصاديّاً. الأهمّ أنّ القمّة وضعت أوكرانيا أمام خطر فقدان الضمانات الأمنيّة والدعم الغربي، وهو ما قد يفاقم التصدّعات الداخلية ويعزّز الخطاب الشعبي عن “خذلان الحلفاء”.

قمّة ألاسكا

جلّ ما حصل عليه هو وعد غير مضمون بحصول أوكرانيا على ضمانات أمنيّة مستوحاة من المادّة الخامسة من معاهدة حلف شمال الأطلسي تتيح تقديم المساعدة لها إذا ما تعرّضت لهجوم، لكن بشرط عدم الانضمام إلى الحلف.

أوروبا الخاسر الأكبر

خرجت أوروبا من القمّة أيضاً مجرّدة من أدوات التأثير. لم تتمّ استشارتها قبل اللقاء، واكتفت ببيانات ردّ فعل بعده. وبحسب الرؤية الروسيّة، “أكبر نتيجة لقمّة ألاسكا هي تحميل أوروبا وأوكرانيا مسؤوليّة أيّ فشل مقبل في المفاوضات”. وبذلك أصبحت بروكسيل متلقّياً للقرارات بدل أن تكون طرفاً في صناعتها. حديث ترامب عن تبادل أراضٍ وتغيير خطوط المواجهات، ترى فيه أوروبا تلميحاً إلى فرض الواقع العسكري على الأوكرانيين والأوروبيين، وتعتقد أنّ فرض بعض التنازلات الشكليّة على الروس لجعل الاتّفاق مقبولاً لن  يلجم بوتين بل يشجّعه على مواصلة تهديد دول البلطيق وبولونيا والتلاعب بالوحدة الأوروبية والتماسك الداخلي لبلدان التكتّل القارّي.

خرج بوتين من قمّة ألاسكا محقّقاً ما يصبو إليه، بعدما أسقط شرط وقف النار الفوريّ ورسّخ فكرة مفاوضات جديدة بشروط روسيّة

خرج بوتين من قمّة ألاسكا محقّقاً ما يصبو إليه، بعدما أسقط شرط وقف النار الفوريّ ورسّخ فكرة مفاوضات جديدة بشروط روسيّة. أمّا ترامب فلا يهمّه إن ظهر متراجعاً أمام ضيفه، بعدما خذل الأوروبيّين وتراجع عن وعوده لكييف. هاجسه الوحيد تحقيق النتائج السريعة وضمان المصالح الأميركية وأن يتوَّج بلقب حامل جائزة نوبل للسلام وأن يطلَق عليه اسم “شرطيّ العالم” و”صانع السلام”.

إقرأ أيضاً: قمّة ألاسكا: أوروبا مذعورة من اتّفاق الكبار

اكتفى بخطاب عامّ بلا نتائج ملموسة وبتلقّي الثناء من بوتين الذي كرّر ما كان يقوله مضيفه دائماً من أنّ حرب أوكرانيا ما كانت لتحدث لو كان هو في البيت الأبيض… في المقابل، بدت أوروبا وأوكرانيا الخاسر الأكبر: الأولى جُرّدت من موقعها التفاوضيّ، والثانية تُركت تواجه الحرب ومخاطر التنازل عن أراضيها وحدها.

مواضيع ذات صلة

إسرائيل غيت

لم تبقَ مؤسسة إسرائيلية إلا وظهر أن الفساد ينخرها من أساسها إلى رأسها، ومثلما تسمي إسرائيل حروبها كما تسمي الأسرة مواليدها، فهي كذلك تسمّي الفضائح….

الشّرع في واشنطن: بين الأمل والمخاطر

حين يدخل الرئيس السوريّ الجديد أحمد الشرع إلى المكتب البيضاويّ اليوم الإثنين، لن يحمل معه زيارةً رسميّةً وحسب، بل رمزيّةَ عودةِ بلدٍ مزّقته الحرب إلى…

انتخابات عراقيّة في ظلّ تراجع إيرانيّ…

قبل أيّام  من الانتخابات النيابيّة العراقيّة، لا بدّ من تسجيل أنّها الانتخابات الأولى التي تجري في ظلّ تراجع إيرانيّ في المنطقة. لا يمكن لمثل هذا…

نيويورك تنتخب يسارها: مسلمٌ يتحدّى التّرامبيّة

انتخب الأميركيّون عام 2009 باراك أوباما أوّل رئيسٍ من أصولٍ إفريقيّة لولايتين متتاليتين. لم يكن الأمر نزوةً، بل هو تحوّل حقيقيّ في مزاج أميركا أبقى…