هل بدأ النظام الإيراني فعلاً تغيير جلده، أم أنّ ما يجري ليس أكثر من عملية تجميل لواجهة مأزومة؟ فبين سحب الخطاب الأيديولوجي من صدارة القرار، وتهميش نفوذ الحرس الثوري في المؤسّسات، وعودة الجيش إلى الواجهة، وصعود شخصيات براغماتية مثل علي لاريجاني، يطرح السؤال نفسه: هل نحن أمام تحوّل بنيوي يعيد للدولة مؤسّساتها وللسياسة مرونتها، أم أمام تكتيك اضطراري يفرضه الانكشاف الأمني والضغوط الدولية، سرعان ما يتراجع عند أول اختبار حقيقي؟
كانت سلسلة من الإجراءات والخطوات قام بها النظام الإسلامي في إيران بمنزلة تعبير واضح عن قرار اتُّخذ على أعلى المستويات بإجراء تقويم جديد للتجربة التي امتدّت لنحو ثلاثة عقود، على المستويين الداخلي والخارجي، وضرورة إعادة هيكلة المؤسّسات لتفتح الطريق أمام ولادة جديدة تكون المنطلق لمواجهة التحدّيات الوجوديّة التي تحيط بإيران من كلّ الجهات.
ظهرت مؤشّرات واضحة بشكل متفّرق، إلّا أنّ الربط بينها واستشراف أبعادها يحملان على الاعتقاد بأنّ تغيير “الجلد” قد بدأ داخل النظام، من خلال سحب الخطاب الأيديولوجي المباشر، وحتّى محاصرته، وتقليم أظافره وقدرته على التحكّم بمسارات القرارات الاستراتيجية الداخلية والخارجية، وفتح الطريق أمام مرحلة جديدة قادرة على التعامل السريع والمرن مع المستجدّات السياسية والأمنيّة والاقتصادية.
إعادة ترميم العلاقة
هذه التغييرات التي بدأت بما كشف عنه وزير الخارجية الأسبق علي أكبر صالحي من تشكيل لجنة تشرف على سياسات وقرارات وزارة الخارجية، تشارك فيها كلّ مراكز القرار السياسية والعسكرية والأمنيّة، على أن يكون القرار في النهاية في يد رئيس الجهاز الدبلوماسي، وهدفها التخلّص من الروتين القديم الذي يستنزف الوقت ويضيع الفرص نتيجة البطء في اتّخاذ القرار في اللحظة المناسبة والحاسمة.
لم يكن التغيير في أمانة المجلس الأعلى للأمن القومي، وتعيين علي لاريجاني مستشار المرشد في هذا الموقع سوى تتويج لمسار هذه التغييرات
ولم يتأخّر النظام على لسان رئيس السلطة التنفيذية رئيس الجمهورية مسعود بزشكيان في إعلان تأسيس “مجلس الدفاع الوطني” الذي يكون ذا مهمّة واضحة ومباشرة، ترتكز أوّلاً على إعادة ترميم العلاقة بين النظام والشعب، وبين الدولة والمؤسّسات، ومواكبة التطوّر التكنولوجي ودمجه في آليّات القرارات الاستراتيجيّة، وتقديم الخطط والرؤى المطلوبة للتعامل مع التحدّيات الداخلية والخارجية.
لم يكن التغيير في أمانة المجلس الأعلى للأمن القومي، وتعيين علي لاريجاني مستشار المرشد في هذا الموقع بديلاً عن سلفه علي أكبر أحمديان الذي انتقل إلى مجلس الدفاع الوطني، سوى تتويج لمسار هذه التغييرات، بحيث تشكّل أمانة المجلس الأعلى نقطة تجميع لكلّ هذه اللجان والتشكيلات الجديدة، وتكون صاحبة القرار النهائي في كلّ المواقف التي تعبّر عن توجّهات النظام السياسية والاستراتيجيّة وحتّى العسكرية، مع ضمان السرعة في اتّخاذ القرار والتنفيذ.
ترافقت هذه التغييرات المعلنة مع سلسلة من تغييرات أمنيّة وسياسية قد تظهر آثارها تباعاً، خاصّة تلك المرتبطة بالانهيار الأمني الذي انكشف جرّاء الخرق الإسرائيلي الكبير والواسع الذي أسهم في تعميق الآثار السلبية للضربة العسكرية. وهو انكشاف أظهر حجم الترهّل والخرق الذي قد يكون وصل إلى داخل المواقع المتقدّمة.
بدأت المستويات الثانية من التغييرات من خلال التعامل مع النفوذ الذي تتمتّع به الجماعات الراديكالية داخل النظام ومؤسّسات القرار، وما تسبّبت به من تعميق الشرخ بين النظام والشعب من جهة، وعرقلة أيّ محاولة لترميم العلاقة مع المجتمع الدولي والحوار والتفاوض في القضايا المصيرية، خاصّة الحوار مع الإدارة الأميركية في الملفّ النووي.
ربّما التحوّل الأبرز الذي قد تكشف عنه المرحلة المقبلة يرتبط بإعادة تعريف دور مؤسّسة حرس الثورة الإسلامية العسكرية، من خلال الحدّ من تغوّلها ونفوذها داخل كلّ مؤسّسات الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والماليّة والصناعية والزراعية، على حساب مهمّتها الدستورية في الحفاظ على النظام والثورة في مواجهة أعداء الداخل والنفوذ الأجنبي. وهو نفوذ عطّل عمل المؤسّسات الرسمية للدولة في كلّ واحد من هذه المجالات، وجعلها خاضعة لرغبة وإرادة هذه المؤسّسة التي تحوّلت إلى منظومة مصالح لا تأخذ بعين الاعتبار التداعيات السلبية على المصالح الوطنية والاستراتيجيّة لإيران، باستثناء ما دأبت على تسويقه من قدرات ونفوذ من خلال الخطابات الحماسيّة التي سرعان ما انكشفت.
ربّما التحوّل الأبرز الذي قد تكشف عنه المرحلة المقبلة يرتبط بإعادة تعريف دور مؤسّسة حرس الثورة الإسلامية العسكرية
قد يشكّل تكليف المرشد الأعلى للّواء عبد الرحيم موسوي بمهمّة قيادة أركان القوّات المسلّحة، خلفاً للواء حرس الثورة محمد باقري، مؤشّراً إلى محاولة إعادة الأمور إلى نصابها المؤسّساتي بعيداً عن البعد الأيديولوجي والعقائدي الذي هيمن على هذا الموقع منذ استحداثه خلال الحرب العراقية الإيرانية عندما تولّى رئيس الوزراء حينها قيادة هذه الأركان.
خروج الحرس من القرار العسكري
عودة الجيش بما هو مؤسّسة رسمية نظاميّة إلى واجهة القيادة في القوّات المسلّحة تعني نهاية ما سعت منظومة السلطة إلى التأسيس له على مدى العقود الثلاثة الماضية، حين كانت تقوم بالتشكيك بولاء هذه المؤسّسة للثورة والنظام، باعتبارها مؤسّسة ذات أبعاد غربية غير عقائدية، وهي الأسباب التي دفعت المرشد لاختيار شخصيّة آتية من قوّات التعبئة الشعبية مثل حسن فيروزآبادي لمدّة 27 سنة لقيادة الأركان كان من أهمّ مؤهّلاتها الولاء للمرشد، وخليفته اللواء باقري الذي بنى قدراته العسكرية من خلال مشاركته في الحرب العراقية الإيرانية.
استبعاد حرس الثورة عن قيادة المجلس الأعلى للأمن القومي، وعن قيادة أركان القوّات المسلّحة يعني أنّ مساراً جديداً قد بدأ داخل النواة المقرِّرة في النظام ينادي بضرورة الانتقال إلى مرحلة جديدة من التعامل مع التحدّيات التي يواجهها والتي تضع مصير إيران كموقع جيوسياسي ودور جيوستراتيجيّ في دائرة الخطر والتهديد الجدّي.
إقرأ أيضاً: قاسم يترجم زيارة لاريجاني: إحياء للعظام وهي رميم..
من هنا يمكن فهم عودة لاريجاني إلى واجهة الأحداث وصدارة المواقع المقرِّرة داخل منظومة القرار في إيران، انطلاقاً من تراكم التجربة التي خاضها على جميع المستويات الإعلامية والحكومية والإدارية والبرلمانية والنووية والتفاوضية، ومن أنّها تأتي استجابةً قد تساعد قبل فوات الأوان في مواجهة التحدّيات والتهديدات التي تحيط بإيران وتسمح بإعادة ترتيب وتنظيم آليّات اتّخاذ القرارات السياسية والدبلوماسية والأمنيّة والعسكرية من خلال قراءة أكثر واقعية وعمليّة من السابق، واستعادة السلطة التنفيذية موقعها الحقيقي داخل آليّات القرار وإدارة الدولة بعيداً عن مصادرتها من قبل المؤسّسة العسكرية مرّة، وقوى راديكالية لا ترى سوى مصالحها على حساب مصالح المواطن ومصالح إيران.
من هنا أيضًا يمكن فهم التحرّك الذي قام به لاريجاني في الأيّام الأخيرة باتّجاه العراق ولبنان، في مهمّة واضحة تقوم على إعادة تصليب مواقف القوى المتحالفة مع إيران في مواجهة الضغوط التي تتعرّض لها أميركيّاً وداخليّاً، ومحاولة إيصال رسالة إلى المجتمع الدولي والأميركي تحديداً بأنّ إيران ما تزال تتمتّع بنفوذ إقليمي يسمح لها بعرقلة وتعطيل تركيب أيّ معادلات إقليمية على حساب مصالحها الاستراتيجيّة.
