لبنان بين قائمتين: تحدّيات جدّيّة وفرص قابلة للتّحقيق

مدة القراءة 7 د

في الخامس من آب 2025، دخل لبنان رسميّاً حيّز التصنيف الأوروبي للدول العالية المخاطر في مجال مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، فيُضاف هذا التصنيف إلى إدراجه السابق على القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF)  في تشرين الأوّل 2024. هذان التصنيفان لم يكونا صدمة مفاجئة، بل محطّتان في مسار طويل من التحدّيات المؤسّسية والماليّة. لكن وسط هذه الصورة القاتمة، يبقى مجال لتحويل هذه اللحظة إلى فرصة إصلاح حقيقيّة، شرط أن تتوافر الإرادة السياسية والقدرة التنفيذية.

 

أُدرج لبنان على القائمة الرمادية بعدما أظهر تقويم مجموعة العمل الماليّ ضعفاً في التزامه معايير الفعّالية وتطبيق التوصيات الفنّية، إذ فشل في تحقيق نتائج مرضية في معظم المؤشّرات الأساسية. وهذه التوصيات، على الرغم من طابعها الفنّي، تتطلّب قبل كلّ شيء إرادة سياسية فاعلة وتعاوناً مؤسّسياً جادّاً. وقد مُنح لبنان مهلة عام كامل للمعالجة، كانت كافية لو توافرت الجدّية. بدلاً من استغلال هذه المهلة لإظهار تقدّم فعليّ، غرق المسار في تجاذبات سياسية وتأجيلات تشريعية وغياب التنسيق بين الجهات المعنيّة.

مراكمة الانهيار

تزامن ذلك مع خطوة الاتّحاد الأوروبي، الذي صنّف لبنان ضمن قائمة الدول التي تُشكّل مخاطر استراتيجيّة على النظام الماليّ الأوروبيّ، ففرض إجراءات أكثر صرامة في التعامل مع مؤسّساته المالية. لم يكن هذا التصنيف مفاجئاً، بل نتيجة تراكمات سابقة، أبرزها:

  • تأخير أو تعطيل إقرار قوانين حيويّة. مثل قانون استقلالية القضاء، وتعديلات قانون السرّية المصرفية، وقانون استعادة الأموال غير المشروعة، التي بقيت رهينة التجاذبات بين الكتل النيابية.
  • إضعاف المؤسّسات الرقابيّة. من خلال ترك الشغور في مواقع حسّاسة (مثل هيئة الأسواق المالية، لجنة الرقابة على المصارف، والنيابات العامّة الماليّة)، أو التدخّل في عملها حين تُبدي استقلاليّة.
  • فشل متكرّر في محاسبة الفساد الماليّ. على الرغم من وضوح ملفّات التحويلات إلى الخارج بعد تشرين الأوّل 2019، وارتفاع شبهات تبييض الأموال، لم تُسجَّل محاكمات جدّية أو نتائج ملموسة في أيّ من هذه القضايا.
  • تسييس ملفّ التفاوض مع صندوق النقد الدولي. طُرحت خطط ماليّة متعدّدة، متناقضة أحياناً، نتيجة صراع مراكز النفوذ، فتشوّهت صورة لبنان كمفاوض جادّ وذي رؤية موحّدة.
  • التمييع المتعمّد للإصلاحات. مثل تلك التي طُلبت في خطّة التعافي المالي، إذ بقيت غامضة أو مبتورة، لا تُحمِّل أيّ جهة مسؤولية واضحة، ولا تُقدِّم معالجة حقيقية للخسائر.
  • غياب الشفافيّة في إدارة الأموال العامّة. من حسابات مصرف لبنان، إلى التحويلات الدولية، إلى أموال المنظّمات المانحة. كلّها ملفّات ظلّت عصيّة على التدقيق أو بقيت رهينة الغموض.
  • العجز عن حماية الكوادر الإصلاحيّة. مثل القضاة أو الفنّيين في المؤسّسات الرقابية، الذين يتعرّضون لضغوط أو تهديدات، دون أن تبادر الدولة إلى حمايتهم أو تثبيت استقلالهم.

أُدرج لبنان على القائمة الرمادية بعدما أظهر تقويم مجموعة العمل الماليّ ضعفاً في التزامه معايير الفعّالية وتطبيق التوصيات الفنّية

تُظهر هذه العوامل مجتمعة أنّ إدراج لبنان على القوائم الدولية لا يُختزل في تقصير إداري أو نقص في الموارد، بل هو انعكاس مباشر لأداء سياسي يُفضّل التكيّف مع الأزمة بدل مواجهتها، وأن يُراكم الانهيار بدل احتوائه.

لقد أصبح واضحاً أنّ الإصلاح في لبنان ليس مسألة نصوص بل مسألة نوايا وسلوك. فالدستور مليء بالمبادئ، والقوانين موجودة، لكنّ التنفيذ غائب، لأنّ التوازنات السياسية تحوّلت إلى تعطيل منهجيّ، والسلطة التشريعية تُستخدم أحياناً كأداة لحماية مصالح آنيّة، لا كمساحة لتجسيد المصلحة العامّة.

بين التّراجع في الثّقة وفرصة لإعادة التّموضع

على الرغم من تأكيدات المسؤولين اللبنانيين أنّ إدراج لبنان على القائمتين (الرماديّة والمرتفعة المخاطر) لا يُنتج عقوبات مباشرة أو حظراً على التعاملات الماليّة، يُشير الواقع العمليّ إلى آثار غير مرئية لكن بالغة التأثير. فالمصارف المراسلة بدأت تُظهر تحفّظاً متزايداً، والمؤسّسات الاستثمارية الدولية تعيد النظر في حجم تعرّضها للمخاطر اللبنانية، وأصبحت التحويلات والمعاملات العابرة للحدود أكثر عرضة للتأخير والتدقيق. هذا لا يحصل نتيجة قرار سياسي، بل هو نتيجة حتميّة لمؤشّرات الامتثال الماليّ التي تعتمدها المؤسّسات الدولية.

لكنّ الأخطر من هذه الإجراءات التقنيّة هو ما لا يُقال صراحةً: الثقة بلبنان كنظام ماليّ آمن قد تراجعت بشكل ملموس. ولم يتراجع هذا الرصيد بسبب الحملات الإعلامية أو الضغوط الدولية، بل نتيجة معطيات موضوعية تُظهر ضعف الإرادة الإصلاحية، واستمرار التردّد في اتّخاذ قرارات حاسمة تُعيد بناء الثقة من أساسها. وعلى الرغم من كلّ ذلك، ما زالت الفرصة قائمة. فخطّة العمل التي أُقرّت مع مجموعة العمل الماليّ في أواخر عام 2024، تُشكّل خريطة طريق واضحة للخروج من القائمة الرمادية خلال عامين، شريطة تحقيق تقدّم ملموس وقابل للتحقّق. والخروج من هذه القائمة لا يتطلّب معجزات، بل جملة من الخطوات المتاحة، أبرزها:

  • تفعيل دور هيئة التحقيق الخاصّة وتمكينها من أداء وظيفتها باستقلالية.
  • الإسراع في معالجة الملفّات العالقة، لا سيما تلك التي ترتبط بشبهات مالية أو تحويلات مشبوهة.
  • تعزيز التنسيق بين السلطتين التنفيذية والرقابية، لتجاوز التنازع والصلاحيّات المتضاربة.
  • إقرار تشريعات متقدّمة في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، تكون واضحة وشفّافة، وتُطبّق دون استثناءات.

هذه الإجراءات، إذا ما نُفّذت بجدّيّة، فلن تعود فقط بالنفع على صورة لبنان الخارجية، بل ستُعيد بعضاً من الثقة الداخلية المنهارة. فالمواطن اللبناني، قبل المستثمر الأجنبي، بحاجة إلى أن يرى في دولته مرجعيّة تُحسن إدارة المال العامّ، وتحمي النظام المالي، وتُحاسب الخارجين عنه. لا يزال الأمل ممكناً، لكنّ الوقت ليس في مصلحة لبنان. والرهان الحقيقي لم يعد على “تحسين السمعة”، بل على إعادة بناء الثقة من خلال الأداء.

على الرغم من التأكيدات أنّ إدراج لبنان على القائمتين (الرماديّة والمرتفعة المخاطر) لا يُنتج عقوبات مباشرة أو حظراً على التعاملات الماليّة، يُشير الواقع العمليّ إلى آثار غير مرئية لكن بالغة التأثير

التّحدّي سياسيّ وليس تقنيّاً فقط

ليست المشكلة في ضعف ذوي الكفاية أو نقص الخبرات، بل في أنّ بعض مراكز القرار لا تنظر إلى الامتثال كضرورة وطنية، بل كتهديد سياسي. ومع ذلك، من المهمّ التمييز: فقد أبدت السلطة التنفيذية، في فترات متقطّعة، مرونة وتعاوناً ملحوظاً مع المؤسّسات الدولية. بينما يُسجَّل على السلطة التشريعية، حتّى الآن، تأخّرٌ أو تحفّظ في إقرار بعض القوانين المطلوبة، لأسباب تتعلّق أحياناً بحسابات داخلية أو خشية من تكلفة سياسية. إنّ بناء الدولة لا يتمّ فقط عبر مؤسّسات فاعلة، بل عبر شعور مشترك بالمسؤوليّة تجاه المصلحة الوطنية. وفي هذه المرحلة، تبرز الحاجة إلى حوار داخلي صريح، يجمع بين السلطات والمؤسّسات، لبلورة مسار إصلاحيّ جامع.

إقرأ أيضاً: مهمّات اقتصاديّة لدولة تنتظر السّلاح

التّحذير ليس إدانة.. بل دعوة

ليست التصنيفات الدولية حكماً نهائيّاً، بل إشارة تحذيريّة تمنح فرصة للمراجعة والتصحيح، وتمنح الوقت، لكن ليس إلى الأبد. بإمكان لبنان أن يحوّل هذه اللحظة من أزمة ثقة إلى نقطة انطلاق. وهذا يتطلّب:

  • إرادةً سياسية جادّة.
  • دعماً للكوادر الإصلاحية في الدولة.
  • انفتاحاً على الشفافيّة.
  • والتزاماً واضحاً لاستعادة مكانة لبنان في النظام الماليّ العالمي.

ينتظر المجتمع الماليّ الدولي الإشارات الإيجابيّة، لكنّ الأهمّ أنّ اللبنانيين أنفسهم ينتظرون نظاماً يحترم حقوقهم، ويصون أموالهم، ويستجيب لتطلّعاتهم. لبنان لم يفقد فرصته بعد، لكنّه بحاجة إلى قرار وطني جامع يُقدّم الدولة على أيّ حسابات ضيّقة.

* باحث مقيم في كلّية سليمان العليان لإدارة الأعمال (OSB) في الجامعة الأميركية في بيروت (AUB).

مواضيع ذات صلة

كارثة مصرفيّة واحدة في لبنان وسورية

لم يكن ينقص سورية في هذه الظروف الانتقاليّة الحرجة إلّا ظهور انكشافها الكبير على الأزمة المصرفيّة في لبنان. تبيّن أنّ أزمة النظام المصرفيّ اللبنانيّ التي…

تسلسل الخطوات لإنقاذ القطاع المالي اللبناني

لا تزال السياسة النقدية والمالية في لبنان رهينة مقاربةٍ تقوم على كسب الوقت وتجنّب مواجهة الحقيقة القاسية: لا تعافٍ اقتصادياً من دون إعادة هيكلة مصرفية…

صندوق النّقد يحسمها: لبنان مقصّر

بينما يشير المسؤولون اللبنانيون إلى قوانين جديدة ومسوّدات خطط، لكن صندوق النقد الدولي غير مقتنع. لا يقتصر الأمر على صدقيّة مساندة الصندوق في المستقبل، بل…

“السّلاح” يطيح “تفاؤل” مصرف لبنان

تحلّ السياسة في البلدان غير المتطوّرة في موقع متقدِّم على الاقتصاد. تمسك بزمام القيادة وترسم معالم الطريق. يخضع الاقتصاد لمفاعيل القرار السياسيّ من دون أن…