من الهزيمة إلى الميليشيا: كيف خسر العرب الدّولة بعد 1967؟

مدة القراءة 9 د

لم تكن هزيمة 1967 نكسة عسكرية وحسب، بل نقطة تحوُّل مفصليّة أدّت إلى انهيار المشروع القومي العربي وصعود الميليشيات لتكون بدائل عن الدولة. يشرح هذا المقال كيف مهّدت تلك الهزيمة لتحوُّل سياسي وأمنيّ جذريّ كان لبنان إحدى أبرز ساحاته وأكثرها هشاشة.

 

 

أثارت تسريبات صوتيّة حديثة لمحادثة بين الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر والرئيس الليبي الراحل معمّر القذّافي نقاشاً واسعاً في العالم العربي. وتعود هذه المحادثة إلى عام 1970، بعد الهزيمة الساحقة التي مُني بها العرب في حرب حزيران 1967. وقد أشار عبدالناصر في التسجيل إلى أنّ الحرب ليست السبيل لحلّ الصراع العربي-الإسرائيلي، مشدّداً على ضرورة اتّباع المسار الدبلوماسي لتحقيق السلام.

تُعدّ حرب 1967 من أكثر الحروب التي خلّفت تداعيات عميقة وطويلة الأمد في المنطقة العربية. ففي ستّة أيّام فقط، تمكّنت إسرائيل من هزيمة ثلاثة جيوش عربية والسيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي، منها سيناء، غزّة، الضفّة الغربية، القدس الشرقية ومرتفعات الجولان.

وفق ما يكشف التسجيل، قوبلت مقاربة عبدالناصر الدبلوماسية برفض من بعض الدول والجماعات والتيّارات العربية، وهو ما يعكس السبب في اعتبار الهزيمة نقطة تحوُّل مفصليّة. فقد بدأ معها تراجع المشروع القومي العربي العلماني، القائم على الدولة الوطنية والجيش، أمام تيّارات أيديولوجيّة بديلة، بدءاً من الحركات اليسارية الثورية، وصولاً إلى صعود الإسلام السياسي بنسختَيه: السنّية الجهادية، والشيعية المرتبطة بـ”ولاية الفقيه”، والتي اعتمدت على الميليشيات المسلّحة لتجسيد تطلّعات الشارع ومعالجة مظالمه.

لم تكن هزيمة 1967 نكسة عسكرية وحسب، بل نقطة تحوُّل مفصليّة أدّت إلى انهيار المشروع القومي العربي وصعود الميليشيات

أثمان باهظة

أبرز مثال على هذا التحوُّل هو منظّمة التحرير الفلسطينية، التي أُسّست عام 1964 برعاية جامعة الدول العربية كمؤسّسة بيروقراطية. وبعد الهزيمة، تحوّلت إلى حركة مقاومة مسلّحة، وتحديداً بعد تسلّم ياسر عرفات قيادتها عام 1969، وأصبحت “الممثّل الشرعي الوحيد” للشعب الفلسطيني، مع جعل “الكفاح المسلّح” في قلب استراتيجيّتها.

أمّا لبنان فعلى الرغم من عدم مشاركته في حرب 1967، فقد دفع لاحقاً أثماناً باهظة، من أبرزها توقيع “اتّفاق القاهرة” في تشرين الثاني 1969، بضغط من مصر وسوريا ودول عربية أخرى، وبموافقة شريحة لبنانية واسعة. وقد وقّع الاتّفاقَ قائد الجيش اللبناني حينها إميل بستاني مع ياسر عرفات، وأتاح لمنظّمة التحرير استخدام لبنان قاعدةً عسكرية. وعلى الرغم من عدم إقراره في البرلمان، أدّى الاتّفاق إلى شرعنة السلاح الفلسطيني، وزرع بذور انهيار الدولة، لا سيما بعد انفجار الوضع في أثناء الحرب الأهلية.

بكلمات واضحة، تنازلت الدولة اللبنانية عن سيادتها عام 1969، وفشلت في استعادتها بعد نهاية الحرب الأهلية عام 1990 بسبب الوصاية السورية، ولم تنجح في ذلك حتّى بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وصعود قوى 14 آذار، نتيجة خضوع الطبقة السياسية تدريجياً لهيمنة “الحزب”. 

من “فتح لاند” إلى قاعدة إقليميّة للمحور الإيرانيّ

بعد الحرب، شرعنت الدولة اللبنانية السلاح الفلسطيني، ثمّ كرّست شرعيّة سلاح “الحزب”، وهو ما أدّى إلى بنية مزدوجة: جيش شرعي من جهة، وسلاح ميليشيويّ خارج إطار الدولة من جهة ثانية. وقد تمّ تثبيت هذه المعادلة في البيانات الوزارية وتصريحات كبار المسؤولين، فيما استمرّ “الحزب” في التحرّك بحرّيّة داخل لبنان وعبر حدوده.

أخيراً، أعلنت السلطات الأردنية توقيف 16 عنصراً من جماعة الإخوان المسلمين تلقّوا تدريباً وتمويلاً في لبنان، وكانوا يخطّطون لهجمات داخل الأردن. يسلّط هذا الحدث الضوء مجدّداً على تحوّل لبنان إلى منصّة لميليشيات مرتبطة بإيران، من “الحزب” إلى “حماس”، وإلى مركز تدريب وتخزين ومعبر لتدخّلات في دول كسوريا، العراق، البحرين واليمن.

تنازلت الدولة اللبنانية عن سيادتها عام 1969، وفشلت في استعادتها بعد نهاية الحرب الأهلية عام 1990 بسبب الوصاية السورية

“الحزب” والدّولة المعلّقة: هل بدأ تفكيك سيطرة الميليشيا؟

منذ نهاية الحرب الأهلية، عاش لبنان في ظلّ معادلة سلاح مزدوج. لكنّ تطوّرات ما بعد “طوفان الأقصى” ومواقف الدولة الأخيرة تُنذر بتحوّل غير مسبوق. فهل بدأ تفكيك سيطرة “الحزب”؟ يتتبّع هذا المقال مسار العلاقة بين الميليشيا والدولة وصولاً إلى لحظة المطالبة باستعادة السيادة.

اتّبعت الجماعات المسلّحة في العالم العربي مسارات مختلفة لبناء نفوذها. ففي حين كانت تهدف في البداية إلى تحرير الأراضي وتغيير الأنظمة، تطوّرت لاحقاً إلى مشاريع تسلُّط على الدول. فالإخوان المسلمون، مثلاً، سعوا إلى تقويض شرعية الأنظمة القائمة. وفي لبنان، حملت أحزاب يسارية وعلمانية السلاح لتحقيق أهداف سياسية.

في فلسطين، فازت “حماس” بانتخابات 2006، لكنّها أطاحت لاحقاً بالسلطة الفلسطينية في غزّة عبر انقلاب داخلي. وفي دول الربيع العربي، حاولت فروع الإخوان الهيمنة على الدولة من خلال الانتخابات، لا بناء ديمقراطية فعليّة.

أمّا “الحزب” فقد اعتمد نموذجاً هجيناً. تظاهر في البداية بعدم الرغبة في الانخراط في مؤسّسات الدولة، وركّز على “تحرير الجنوب”، لكنّه انخرط فعليّاً في الحكم بعد انسحاب سوريا عام 2005. لم يقدّم يوماً برنامجاً اقتصادياً أو اجتماعياً واضحاً، لكنّه تحوّل بعد حرب 2006 إلى قوّة إقليمية تنشط من الأراضي اللبنانية.

من خلال الترهيب والاحتواء، تمكّن من تطويع النخبة السياسية لمصالحه، وسط تساهل رسميّ تجاه استخدامه للمرافئ والمطار، وتحوّلت الحدود مع سوريا إلى معبر حرّ للسلاح والمقاتلين والتجارة غير الشرعية.

منذ نهاية الحرب الأهلية، عاش لبنان في ظلّ معادلة سلاح مزدوج. لكنّ تطوّرات ما بعد “طوفان الأقصى” ومواقف الدولة الأخيرة تُنذر بتحوّل غير مسبوق

الانهيار الاقتصاديّ وخرافة “الاستقرار

فيما كانت القوى السياسية تتنازع على الحصص، عزّز “الحزب” نفوذه وبات “ضابط إيقاع” للحكم مستفيداً من التشرذم. وتوسّع نفوذه إلى القطاع الماليّ، بعدما تورّطت بعض المصارف في غسل أموال، ففُرضت عقوبات دولية. ونسج “الحزب” علاقات وثيقة مع حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، فنشأ اقتصاد نقديّ موازٍ وشبكات إقراض غير شرعية.

تعاملت الحكومات المتعاقبة مع سلاح “الحزب” على أساس أنّه قضيّة خارجية لا قدرة لها على معالجتها، معتقدة أنّ هذا التعايش لن يؤثّر على الاقتصاد اللبناني الخدميّ. لكنّ هذه المقاربة انهارت. ووفق البنك الدولي، شهد لبنان أحد أسوأ الانهيارات الاقتصادية في التاريخ المعاصر، مع تراجع في السياحة والخدمات وفرض عقوبات ماليّة وإدراجه على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي.

طوفان الأقصى”: بداية نهاية الميليشيات؟

إذا كانت هزيمة 1967 قد أطلقت عصر الميليشيات، فإنّ عمليّة “طوفان الأقصى” في تشرين الأوّل 2023 قد تمثّل بداية نهايته. فالخسائر الفادحة التي لحقت بـ”حماس” و”الحزب”، والخسائر الجسدية والمادّية التي طالت المدنيين، طرحت تساؤلات جدّية عن جدوى نموذج “المقاومة المسلّحة” في غياب الردع.

لم تتمكّن الميليشيات من ردع العدوان ولا من حماية السكّان. بالعكس، تسبّبت في دمار شامل. فغزّة كانت أفضل حالاً قبل 7 أكتوبر (تشرين الأوّل)، وسكّان جنوب لبنان والضاحية الجنوبية لبيروت كانوا أكثر أمناً قبل فتح الجبهة “تضامناً” مع “حماس”.

إذا كانت هزيمة 1967 قد أطلقت عصر الميليشيات، فإنّ عمليّة “طوفان الأقصى” في تشرين الأوّل 2023 قد تمثّل بداية نهايته

نزع السّلاح واستعادة الدّولة

في لبنان، ارتبط وقف إطلاق النار في الجنوب باستعادة الدولة احتكارها لاستخدام القوّة. وهذا المبدأ ورد في خطاب القسم لرئيس الجمهورية، وفي البيان الوزاري للحكومة الجديدة، فانتقل النقاش من “هل يجب نزع سلاح “الحزب”؟” إلى “متى وكيف؟”.

بدأ الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل بتفكيك منشآت لـ”الحزب” جنوب الليطاني، وسط تأكيدات رسمية على انسحاب “الحزب” من تلك المنطقة. لكنّ “الحزب” أعلن رفضه المطلق للتخلّي عن سلاحه، مع الإعراب عن “الانفتاح” على حوار بشأن “استراتيجية دفاعية شاملة”.

إلّا أنّ هذا يشير إلى تناقض في مواقفه: فهو يقبل بنزع السلاح قرب الحدود، لكن يرفضه شمال الليطاني. وهذا يطرح سؤالاً أساسيّاً: إذا كانت مهمّة سلاح “الحزب” هي الدفاع عن لبنان، فلماذا التخلّي عنه حيث يُفترض أنّ الحاجة إليه أكبر؟

هناك تفسيران: إمّا سلاح “الحزب” يُستخدم لحماية الطائفة الشيعية والمحافظة على حصّتها في النظام الطائفي اللبناني، وهذا يعيدنا إلى منطق الميليشيات قبل الحرب الأهلية،

أو هو أداة في المشروع الإيراني الإقليمي، وهذا يعني أنّ نزع السلاح يتطلّب انتقال المفاوضات إلى طهران لا أن تكون في بيروت. ووفق هذا السيناريو، تريُّث “الحزب” هو “هدنة تكتيكية” بانتظار نتائج المفاوضات الأميركية – الإيرانية.

في لبنان، ارتبط وقف إطلاق النار في الجنوب باستعادة الدولة احتكارها لاستخدام القوّة. وهذا المبدأ ورد في خطاب القسم لرئيس الجمهورية، وفي البيان الوزاري للحكومة الجديدة

هل تُستعاد السّيادة فعلاً؟

منذ أيّام، وجّه المجلس الأعلى للدفاع تحذيراً شديد اللهجة إلى حركة حماس، مفاده أنّ أيّ استخدام للأراضي اللبنانية لشنّ هجمات سيُقابَل بردّ حاسم. جاء ذلك بعد توقيف عناصر لـ”حماس” يُشتبه بتورّطهم في عمليّات. وتزامناً، يتحضّر لبنان لاستقبال الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس لإعلان دعمه الخطّة اللبنانية لنزع السلاح الفلسطيني، انسجاماً مع الدستور وقرارات الأمم المتّحدة.

إقرأ أيضاً: سوريا: أنقرة تُحرّك ورقة أذربيجان بوجه تل أبيب؟

تدلّ هذه المؤشّرات على بداية فكّ الارتباط مع إرث “اتّفاق القاهرة”، واستعادة الدولة لدورها. لكنّ هذه الإجراءات يجب أن تشمل كلّ السلاح خارج الجيش والأجهزة الأمنيّة، بغضّ النظر عن انتمائه. وهنا يبرز السؤال الأهمّ: ماذا عن “الحزب” وسلاحه؟

هل يتمّ إنجاز نزع سلاحه عبر حوار وطني؟ أم هذا الأمر مرتبط بنتائج المفاوضات الأميركية – الإيرانية؟ أم “الحزب” سيرفض كلّيّاً هذا المبدأ، مفاقماً بذلك الانقسام، ومُعرقلاً فرص لبنان في الحصول على دعم عربي ودولي لإعادة الإعمار والنهوض باقتصاده؟

لبنان اليوم أمام مفترق حاسم. فإمّا استعادة السيادة بالكامل، أو المخاطرة بفقدان ما بقي من الاستقرار والدعم الدولي.

مواضيع ذات صلة

خرافة النّكبة الشّيعيّة

عادت فكرة “مظلوميّة الأمّة الشيعيّة” العابرة للحدود الوطنيّة لتطلّ برأسها من بوّابة أنّ تفكّك محور الميليشيات الإيرانيّة أو ما يسمّى “محور المقاومة”، سيطلق العنان لردّ…

“الأمّة اللّبنانيّة” القلِقة من انبعاث سوريا

لا يحتاج اللبنانيّون إلى تصريحات توم بارّاك كي يقلقوا على كينونتهم، وخصوصيّتهم، وأساطيرهم. هذا “اللبنان” منذ إنشائه قبل أكثر من قرن لم يهدأ أصلاً ولم…

من المسجد الحرام إلى المسجد الأمويّ

من المسجد الحرام في مكّة المكرّمة إلى المسجد الأمويّ في دمشق، ترسم خارطةُ طريق ملامحَ شرق أوسط جديد تعهّد وليّ العهد السعوديّ الأمير محمّد بن…

قيادة العالم: من أكبر قنبلة إلى الذّكاء الاصطناعيّ..

عند نهاية الحرب العالميّة الثانية، دخل العالم مرحلة جديدة حدّدتها حقيقة واحدة مقلقة: دولة واحدة فقط كانت تمتلك السلاح النوويّ. ثبّت هذا الاحتكار، وإن كان…