البيان الوزاريّ: بين التّطلّعات والواقع

مدة القراءة 6 د

في يومَي الثلاثاء والأربعاء في 25 و26 شباط، مارس النواب المنتخبون في أيّار 2022 للمرّة الأولى رسمياً دورهم الدستوري في الرقابة والتوازن من خلال تقويم البيان الوزاري للحكومة، وهو مهمّة ذات أهمّية خاصة، نظراً لأنّ الحكومة السابقة عملت فقط حكومة تصريف أعمال تفتقر إلى آليّات المساءلة الدقيقة.

 

 

يمثّل التشكيل السريع للحكومة اللبنانية وصياغة بيانها الوزاري في الوقت المناسب تحوّلاً إيجابياً لدولة أتقنت لعقود من الزمان فنّ عدم الحكم. أصبحت حكومات تصريف الأعمال في لبنان في كثير من الأحيان القاعدة لا الاستثناء. وبلغ هذا النمط ذروته بشكلٍ ساخرٍ عندما سعى وزير الخارجية الأسبق جبران باسيل ذات يوم في خطاب ألقاه في المنتدى الاقتصادي العالمي إلى تقديم الحكم المختلّ في لبنان نموذجاً لكيفية الصمود يمكن لدول أخرى محاكاته.

اتّجاه جديد في الحكم

البيان الوزاري الحكومي هو بيان رسمي تقدّمه الحكومة للبرلمان، واستطراداً لعامّة الناس. وهو بمنزلة أداة للحكومة لتحديد سياساتها وخططها بما يتيح للبرلمانيين محاسبة الوزراء على أفعالهم وأدائهم.

يتميّز البيان الوزاري الذي قدّمته حكومة الإصلاح والإنقاذ من حيث الشكل والمضمون عن سابقيه. والأمر الأكثر أهمّية هو أنّه يحدّد صراحةً تفويض الحكومة من خلال الالتزام بإجراء الانتخابات البرلمانية في موعدها المحدّد في أيّار 2026، وتحديد إطار زمني واضح لفترة ولايتها. بالإضافة إلى ذلك، تلتزم الحكومة إلغاء قاعدة الإفلات من العقاب.

البيان الوزاري الحكومي هو بيان رسمي تقدّمه الحكومة للبرلمان، واستطراداً لعامّة الناس. وهو بمنزلة أداة للحكومة لتحديد سياساتها وخططها

الأهمّ من ذلك أنّ البيان يسلّط الضوء على الحاجة الملحّة إلى إعادة بناء الدولة وفقاً للدستور واتّفاق الطائف ومبادئ الشفافية والمساءلة وسيادة القانون، ويشدّد على أهمّية الحياد وعدم التدخّل في العملية الانتخابية.

تقدّم الحكومة في بيانها رؤية واضحة لدولة تحتكر الاستخدام المشروع للأسلحة والقوّة، وتؤكّد سلطتها الحصرية في اتّخاذ القرارات المتعلّقة بالحرب والسلام وتحرير أيّ أراضٍ محتلّة، معتمدة فقط على مواردها الخاصّة.

إنّ الالتزام الصريح الوارد في البيان بتعزيز الدولة ومؤسّساتها والجيش وقوى الأمن، إلى جانب التنفيذ الكامل للقرار الأممي 1701 والمسؤولية عن حماية حدود لبنان، أمر يستحقّ التقدير، فهو يمثّل تحوّلاً كبيراً عن عقود من دمج مفهوم المقاومة، أو ما يسمّى “ثلاثية” الجيش والشعب والمقاومة، في الخطاب الوطني.

من الجوانب الواعدة الأخرى في البيان الوزاري تعهُّد الحكومة بإنشاء صندوق ائتماني لتمويل إعادة الإعمار بما يتماشى مع مبادئ الشفافية، والتزامها اتّباع سياسة خارجية نشطة تبعد لبنان عن الصراعات الإقليمية، بالإضافة إلى تعزيز المشاركة مع الدول الصديقة والمنظّمات الدولية. وتلتزم أيضاً منع استخدام لبنان منصّة لمهاجمة الدول العربية أو الصديقة، وتعِد بإطلاق حوار جادّ مع السلطات السورية الجديدة لمعالجة القضايا التي لم يتمّ حلّها، مثل ترسيم الحدود وإيجاد حلّ مستدام لأزمة اللاجئين.

البيان يسلّط الضوء على الحاجة الملحّة إلى إعادة بناء الدولة وفقاً للدستور واتّفاق الطائف ومبادئ الشفافية والمساءلة وسيادة القانون

عبارات عامّة

غير أنّ النبرة تصبح أقلّ طمأنة عندما يتعلّق الأمر بالجوانب الاجتماعية والاقتصادية والقطاع العامّ والحوكمة في البيان الوزاري. غالباً ما كانت الحكومات السابقة تتناول هذه الأقسام بالتفصيل، وتقدّم توصيات سياسية شاملة، إلّا أنّ سجلّها في الوفاء بهذه الوعود لا يزال موضع تساؤل.

في بيانها الوزاري، تذكر الحكومة الحالية هذه القضايا بعبارات عامّة فقط، دون تقديم استراتيجيات قابلة للتنفيذ. فعلى غرار الحكومات السابقة منذ عام 2019، التزمت الحكومة إيجاد حلّ عادل لأموال المودعين من خلال خطّة شاملة تتماشى مع أفضل الممارسات الدولية. ومع ذلك، جميع الخطط منذ عام 2020، بما فيها تلك التي تمّت مناقشتها مع صندوق النقد الدولي، تعثّرت عند قضيّة بالغة الأهميّة: كيفية توزيع عبء الخسائر الماليّة بين الحكومة والبنك المركزي والبنوك التجارية والمودعين. كانت هذه المسألة غير المحلولة بمنزلة “الفيل في الغرفة” على مدى السنوات الخمس ونصف السنة الماضية. هذا وتعهدت الحكومة باستئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي للاتّفاق على برنامج جديد. غير أنّ الشروط المسبقة التي تمّ تحديدها بموجب الاتّفاق على مستوى الموظّفين الذي توصّلت إليه السلطات اللبنانية مع فريق من خبراء الصندوق في نيسان 2022، لم تنفَّذ حتى الآن.

يتضمّن البيان أيضاً التزامَ إنشاء نظام حماية اجتماعية شامل، دون توجيه واضح بشأن كيفية تمويله. وكان يمكن للحكومة طرح الهدف الأكثر قابلية للتحقيق المتمثّل بتنفيذ الاستراتيجية الوطنية للحماية الاجتماعية، التي تمّ تطويرها بدعم من اليونيسف ومنظّمة العمل الدولية والبنك الدولي وشركاء دوليين آخرين، وأن تعطي الأولويّة لتنفيذ برنامج الإصلاحات في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، الذي يقدّم نظاماً جديداً للتقاعد والرعاية الاجتماعية.

في ما يتعلّق بتعيين الموظّفين في القطاع العامّ يتجاهل بيان الحكومة قضيّة بالغة الأهمية، وهي انخفاض أجور القطاع العامّ. فبدون معالجة هذه المشكلة، سيشكّل استقطاب المرشّحين الأكفّاء والاحتفاظ بهم تحدّياً خطيراً.

في ما يتعلّق بتعيين الموظّفين في القطاع العامّ يتجاهل بيان الحكومة قضيّة بالغة الأهمية، وهي انخفاض أجور القطاع العامّ

التّطلّعات مقابل الواقع

يحدّد البيان الوزاري رؤية الحكومة للدولة اللبنانية المثالية. غير أنّ هناك خطاً رفيعاً بين الطموحات وما يمكن تحقيقه بشكل واقعي. لقد التزمت الحكومة إجراء انتخابات محلّية في غضون ثلاثة أشهر، وتنفيذ المداورة في التركيبة الطائفية للمناصب العليا في القطاع العامّ. إنّ الفشل في الوفاء بهذه الوعود من شأنه أن يثير حتماً الشكوك في قدرة الحكومة على الوفاء بالتزاماتها.

إقرأ أيضاً: المفاوضات مع صندوق النّقد: التّحدّيات العالقة

نظراً لقصر مدّة ولايتها، سيكون من الأفضل لهذه الحكومة التركيز على تحقيق إنجازات ملموسة ووضع الإصلاحات التي يمكن تنفيذها بشكل واقعي ضمن مهلة زمنية محدودة وترسيخ الأساس لمعالجة التحدّيات الأطول أمداً.

في النهاية، وعلى الرغم من الاعتراف بأهمّية توسيع الأراضي الزراعية، نظراً للقيود الحالية على الموارد في لبنان والتحدّيات المتزايدة الناتجة عن تغيّر المناخ، يجب التساؤل: هل كان من الممكن تحقيق مثل هذا الهدف قبل الانتخابات البرلمانية في أيار 2026؟

لقراءة النص بنسخته الأصلية اضغط هنا

* باحث وأكاديميّ لبنانيّ.

مواضيع ذات صلة

“إخوان” الأردن والدّولة الوطنيّة وفلسطين

بين عقائديّات “الإخوان” مِن أصول فلسطينية، وبراغماتيّات ذوي الأصول الأردنية، واتّفاقات وادي عربة عام 1994، اضطربت علاقات “الإخوان” بالدولة الأردنيّة بعد استقرارٍ وتداخلٍ لحوالى نصف…

نائب للرّئيس الفلسطينيّ… بديل للإصلاح؟

أوفى الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس بوعد كان أطلقه أمام القمّة العربية الطارئة في القاهرة، في 4 آذار الماضي، يقضي بتعيين نائب لرئيس اللجنة التنفيذية لمنظّمة…

لبنان بين انعدام خبرة أورتاغوس… وانكفاء “الحزب”

يصعب الفصل بين الغارة الإسرائيلية على حيّ الجاموس بالضاحية الجنوبية لبيروت يوم الأحد، وبين انفجار مرفأ “رجائي” في بندر عباس الإيراني السبت. فبنيامين نتنياهو يلعب…

عباس بين معضلة الانقسام وتعقيدات التسوية

في فترة الاحتضار الطويل لياسر عرفات، وحتى قبل مرضه، كانَ محمود عباس هو المرشحَ التلقائيَّ لخلافته؛ ليس فقط لكونه أحدَ التاريخيين المؤسسين الذين بقوا على…