“إلى أن يتعلّم الأسد الكتابة... ستظلّ كلّ السرديّات تمجّد الصيّاد”. يتردّد صدى هذا المثل الشعبي الإفريقي بعمق في أوقات الصراع، حين تتجاوز المعركة الحرب المادّية لتمتدّ إلى عالم السرديّات. كلّ صراع هو في النهاية صراع من أجل الإدراك والشرعية والسيطرة على السردية التي تحدّد الفائزين والخاسرين. في المنطقة العربية، التي يغمرها نسيج معقّد من التاريخ والدين والجغرافيا السياسية، يكتسب هذا الصراع أهمّية أكبر.
منذ الثورة الإسلامية عام 1979، أتقنت إيران فنّ حرب السرديّات، وسعت إلى إعادة تشكيل الحقائق، وتبرير التدخّلات، وتوسيع نفوذها الإقليمي من خلال استخدام الدعاية والمعلومات المضلّلة والخطاب الأيديولوجي. حتى عندما تباهى المسؤولون الإيرانيون بنفوذهم على أربع عواصم عربية، كان هذا الادّعاء يتعلّق بالسيطرة على السرديّة أكثر من كونه تأكيداً للتفوّق العسكري الصريح. لقد أدّى التلاعب بالسرديّة عبر وسائل الإعلام التقليدية ومنصّات التواصل الاجتماعي والخطاب السياسي إلى تشويه الحقائق ونزع الشرعية عن المعارضين.
لطالما وضعت إيران وحلفاؤها أنفسهم مدافعين عن قضيّة عادلة، فأُجبر خصومهم على اتّخاذ موقف دفاعي دائم. وبرع “الحزب” على وجه الخصوص في صياغة وتعزيز سردياته. ففي أعقاب حرب تموز 2006، نجح في تقديم أسلحته على أنّها سلاح الدفاع النهائي ضدّ العدوان الإسرائيلي، فتعزّزت فكرة أنّ “أسلحة المقاومة” هي ضرورة وطنية. وسرعان ما اكتسبت هذه السردية زخماً وتمّ إضفاء الطابع المؤسّسي عليها، حتى إنّها وجدت طريقها إلى البيانات الوزارية التي أصدرتها الحكومات اللبنانية المتعاقبة.
كانت قبضة “الحزب” المحكمة على مؤسّسات الدولة حاسمة ومفيدة في حماية قوّته العسكرية وتعزيز سرديته المفضّلة. ولم يتمّ تأطير تدخّله في سوريا باعتباره دعماً لنظام بشار الأسد، بل إجراء دفاعي لحماية التعدّدية ونمط الحياة في لبنان.
منذ الثورة الإسلامية عام 1979، أتقنت إيران فنّ حرب السرديّات، وسعت إلى إعادة تشكيل الحقائق، وتبرير التدخّلات، وتوسيع نفوذها الإقليمي
سردية “مجتمع تحت الحصار”
أدّت التطوّرات الأخيرة، مثل تعزيز الجيش اللبناني لتدابير أمنيّة في المطار ومنعه طائرة إيرانية من الهبوط، إلى التقليل فعليّاً من بعض امتيازات “الحزب” وإطلاق مرحلة جديدة في حرب السرديّات هذه. يدّعي “الحزب” الآن أنّ هذه الإجراءات تهدف إلى منع المساعدات الماليّة الإيرانية المخصّصة لتعويض الأسر المتضرّرة من الصراع الأخير. ولذلك كانت الحوادث الأخيرة على طريق المطار ردود فعل عفوية من جانب أولئك الذين تضرّرت ممتلكاتهم والذين شعروا بالإحباط بسبب بطء الاستجابة للتعويض عن الأضرار التي لحقت بهم.
بدلاً من إعلان ضرورة تعزيز مؤسّسات الدولة والسيادة وسيادة القانون، يصوّر “الحزب” هذه التحرّكات حصاراً مفروضاً على مجتمع معيّن لإرضاء الولايات المتحدة وغيرها من القوى الأجنبية. وبذلك يبني سردية الضحيّة، سردية “مجتمع تحت الحصار”.
ليست هذه السرديّة جديدة تماماً، إذ تمتدّ جذورها إلى فترة إعادة الإعمار التي أعقبت عام 2006. في ذلك الوقت، ادّعى “الحزب” الفضل في العودة السريعة للأسر النازحة، وإعادة بناء الضاحية الجنوبية لبيروت، وإعادة إعمار القرى في جنوب لبنان.
في سرديته هذه، تمّ تصوير إيران الراعي الرئيسي، في حين تمّ التقليل من أهمّية دور الحكومة اللبنانية والمساعدات الماليّة الكبيرة من المملكة العربية السعودية وقطر والكويت والإمارات العربية المتحدة، التي كانت أكثر أهمّية بكثير من مساهمات إيران.
بدورها، قُدّمت العقوبات المفروضة على الشخصيات المتّهمة بتمويل “الحزب” ووكلاء إيران بشكل مماثل، إذ تمّ دمج انهيار المؤسّسات المالية اللبنانية، مثل البنك اللبناني الكندي وبنك جمّال ترست، في سردية “الحزب” هذه، من خلال تصوير القيود المفروضة على الشبكات المالية المرتبطة بـ”الحزب” هجماتٍ ضدّ الطائفة الشيعية بأكملها.
نسج السرديّة المنافسة
تتفاعل اليوم الجماعات السياسية ومجموعات النشطاء اللبنانيين بطرق مختلفة مع السردية الناشئة لـ”الحزب”. البعض يرفضها تماماً، في حين يعترف آخرون بالمخاوف الكامنة ويدعون إلى حوار أكثر شمولاً. ومع ذلك، تشير الدروس المستفادة من لبنان بعد عام 2006 إلى أنّ إنكار أو تشويه هذه السردية غير فعّال، وأنّه لا يمكن مواجهة سرديّة غير موجّهة من قبل الدولة إلّا إذا قامت الدولة ببناء سرديتهما المنافسة الخاصّة بها، سردية متجذّرة في الشرعية والشفافيّة والكفاءة.
تواجه الحكومة اللبنانية الجديدة مهمّة حاسمة. فبالإضافة إلى فرض القرار 1701 أو الاستعداد للانتخابات البرلمانية لعام 2026، يجب أن يكون هدفها الأساسي بناء سردية مدعومة من الدولة قائمة على الحكم الرشيد وصدقيّة المؤسّسات وسيادة القانون. وهذا يتطلّب تنفيذاً فعّالاً للإصلاحات ولجهود إعادة الإعمار بعيداً عن المحسوبية والمحاباة.
لا تتعلّق إعادة الإعمار بعد الحرب بإعادة بناء المنازل وسبل العيش وحسب، بل تمثّل فرصة لاستعادة الشرعية وبناء سردية وطنية متجذّرة بقوّة في سيادة الدولة
لبنان على مفترق طرق
يجب الحدّ من سوء الإدارة، وأن تكون المشتريات العامّة شفّافة وخاضعة للمساءلة، وأن يتمّ الالتزام الصارم بمعايير التخطيط البيئي والحضري لضمان التنمية المستدامة. والأهمّ من ذلك كلّه، من الضروري أن تجعل الحكومة سياساتها وقراراتها علنية ومتاحة للصحافيين والناشطين وعامّة الناس. فالشفافيّة هي التي تبني الثقة، والوصول إلى المعلومات الموثوقة هو السلاح الأكثر فعّالية ضدّ المعلومات المضلّلة والسرديّات الملفّقة.
يقف لبنان اليوم عند مفترق طرق. لا تتعلّق إعادة الإعمار بعد الحرب بإعادة بناء المنازل وسبل العيش وحسب، بل تمثّل فرصة لاستعادة الشرعية وبناء سردية وطنية متجذّرة بقوّة في سيادة الدولة وصدقيّة المؤسّسات.
“تقاس شرعية الحكومة بشفافيّتها وكفاءتها. ومن دونهما تصبح الدولة سلطة بلا ثقة”. وإذا فشل لبنان في اغتنام هذه اللحظة، فسيستمرّ فرض حرب السرديّات من قبل جهات غير حكومية، وتعريض مستقبل الدولة اللبنانية نفسها للخطر.
لقراءة النص بلغته الأصلية اضغط هنا
* باحث وأكاديميّ لبنانيّ.