السودان كسرت الجرّة مع الإمارات

مدة القراءة 7 د

أن يرفع السودان دعوى لدى محكمة العدل الدولية ضدّ الإمارات العربية المتحدة بتهمة التواطؤ على ارتكاب إبادة جماعية خلال الحرب الأهليّة الدائرة على أرضه، ومعنى ذلك أنّ العلاقات بين الخرطوم وأبوظبي بلغت الطريق المسدود وأنّ “الجرّة كُسرت بينهما”.

 

يدّعي المجلس السيادي الانتقالي السوداني أنّ الإمارات تسلِّح “قوات الدعم السريع” بقيادة محمد حمدان دقلو الملقّب بـ”حميدتي”، بهدف إبادة السكّان غير العرب من مجموعة “المساليت” العرقية في غرب دارفور. في حين ترفض الإمارات هذه الاتّهامات وتصفها بأنّها “خدعة دعائية ساخرة”، نافية أيّ تورّط عسكري لها في الحرب التي تسبّبت بكارثة إنسانية مخيفة في البلد العربي الإفريقي. وأكّدت أنّها “لا تدعم أيّ طرف” في الحرب الأهليّة السودانية، وأنّه لا يوجد دليل يدعم ادّعاءات السودان. وشدّدت على أنّ “مصلحتنا الوحيدة هي ضمان سلام دائم ينهي معاناة الشعب السوداني ويجلب الاستقرار إلى السودان والمنطقة بأسرها”.

شنّت “قوّات الدعم السريع” هجمات ممنهجة على المجموعات العرقية غير العربية، وخاصّة قبيلة المساليت، بهدف تدمير جماعتهم العرقية المختلفة

حرب إبادة ضدّ المساليت

وفقاً للقضيّة التي رفعها السودان، شنّت “قوّات الدعم السريع” هجمات ممنهجة على المجموعات العرقية غير العربية، وخاصّة قبيلة المساليت، بهدف تدمير جماعتهم العرقية المختلفة.

تُعتبر المساليت من أشهر القبائل العريقة المستقرّة بين غربي السودان وشرق تشاد، وبالتحديد في ولاية غرب دارفور. قاومت الاستعمارين الفرنسي والبريطاني، وخضعت للتقسيم في إطار توقيع معاهدة بين فرنسا وإنكلترا عام 1920، فاستقرّت في المنطقة الحدودية الفاصلة بين السودان وتشاد. أهلها مسلمون وأصولها عبارة عن خليط من سلالات مختلفة، ويغلب عليهم العنصر الزنجيّ، ويتكلّمون المساليت، وجزء منهم يتكلّم اللغة النيليّة الصحراوية.

اتّهمت منظّمة “هيومن رايتس ووتش” عام 2023 قوّات الدعم السريع بارتكاب إبادة جماعية في حقّ المساليت في معقلهم في مدينة الجنينة، عاصمة ولاية غرب دارفور. وقالت في تقرير إنّ “استهداف المساليت وغيرهم من المجتمعات غير العربية، بهدف واضح هو دفعهم إلى مغادرة المنطقة بشكل دائم، يشكّل تطهيراً عرقيّاً”.

ادّعت الخرطوم أنّ قوات الدعم السريع استخدمت الاغتصاب سلاحاً ضدّ المدنيين. وأبلغت محكمةَ العدل الدولية إنّ الإمارات تنتهك اتّفاق منع الإبادة الجماعية بدعمها قوّات الدعم السريع. وطلبت من القضاة إصدار أوامر وقائية طارئة.

في كانون الثاني الماضي، صنّفت الولايات المتّحدة الهجمات على المساليت إبادةً جماعيّة.

اتّهم السودانُ الإمارات مراراً بتسليح قوّات الدعم السريع التي تقاتل الجيش السوداني في حرب أهليّة مستمرّة منذ نحو عامين، وهو اتّهام تنفيه الإمارات. لكنّ خبراء الأمم المتحدة ومشرّعين أميركيين وجدوا أنّها تتّسم بالصدقيّة.

ادّعت الخرطوم أنّ قوات الدعم السريع استخدمت الاغتصاب سلاحاً ضدّ المدنيين. وأبلغت محكمةَ العدل الدولية إنّ الإمارات تنتهك اتّفاق منع الإبادة الجماعية بدعمها قوّات الدعم السريع

الإمارات أكبر المستثمرين في الحرب

برزت الإمارات باعتبارها اللاعب الخارجي الأكثر استثماراً في الحرب. إذ تنظر إلى السودان الغنيّ بالموارد وذي الموقع الاستراتيجي فرصةً لتوسيع نفوذها وسيطرتها في البحر الأحمر وشرق إفريقيا.

‌منذ سنة 2018، استثمرت الإمارات مليارات الدولارات في البلاد. ويشمل ذلك الاحتياطات الأجنبية في البنك المركزي السوداني ومشاريع الزراعة وموانىء البحر الأحمر. ومنذ 2019، توجّهت إليها أصابع الاتّهام بأنّها قوّضت الانتقال الديمقراطي في السودان في أعقاب إطاحة الرئيس عمر البشير. ثمّ ساهمت في تمكين الجيش السوداني وقوّات الدعم السريع ضدّ الجناح المدني للحكومة. ومع اندلاع الحرب بين الجيش بقيادة الفريق عبدالفتّاح البرهان والميليشيا بزعامة “حميدتي”، فضّلت أبو ظبي قوّات الدعم السريع على الجيش وساهمت في تسليحها ودعمها على الرغم من نفيها المتكرّر لذلك.

بحسب خبراء الأمم المتحدة، أنشأت الإمارات عمليّات لوجستية لإرسال الأسلحة إلى قوّات الدعم السريع من خلال شبكاتها في ليبيا وتشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى وجنوب السودان وأوغندا.

أشارت تقارير دولية أخرى إلى أنّ “حميدتي” يعمل وصيّاً على المصالح الإماراتيّة في السودان، التي تشمل الذهب والمنتجات الزراعية.

‌ أنشأت الإمارات عمليّات لوجستية لإرسال الأسلحة إلى قوّات الدعم السريع من خلال شبكاتها في ليبيا وتشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى وجنوب السودان وأوغندا

الذّهب والغذاء محرِّكان للصّراع

لا شكّ أنّ الذهب كان أحد المحرّكات الرئيسية للصراع في السودان، فهو يسمح لكلا الطرفين بتغذية آلات الحرب الخاصّة بهما. وتُعتبر الإمارات المستفيد الرئيسي من هذه التجارة، ذلك أنّها تتلقّى كلّ الذهب المهرّب من السودان تقريباً وأصبحت مركزاً لغسل الذهب المهرّب إلى السوق العالمية. وتُظهر أحدث الإحصاءات المتاحة أنّ الإمارات استوردت رسميّاً معادن ثمينة من السودان بقيمة حوالي 2.3 مليار دولار في عام 2022.

لمّا كانت الإمارات تستورد 90 في المئة من إمداداتها الغذائية، فقد جعلت الأمن الغذائي إحدى أهمّ أولويّاتها منذ أزمة الغذاء العالمية عام 2007، وبدأت الاستثمار في الأراضي الزراعية في الخارج، ولا سيما في السودان، حيث تتولّى شركتان إماراتيّتان الاستثمار الزراعي في 50 ألف هكتار في شمال السودان، مع خطط للتوسّع، ثمّ يتمّ شحن المنتجات الزراعية عبر البحر الأحمر. ولتجاوز ميناء السودان، الذي كانت تديره الحكومة السودانية، وقّعت الإمارات صفقة جديدة في سنة 2022 لبناء ميناء جديد على ساحل السودان تديره مجموعة موانئ أبو ظبي.

السّباق الدّوليّ على الموانىء

لعب الموقع الجيوسياسي للسودان دوراً محوريّاً في الأزمة. تسعى الإمارات إلى تعزيز سيطرتها على الموانئ السودانية كي تبرز قوّة إقليمية ذات نفوذ. وترى أنّ الجيش السوداني تهديد للأمن الملاحيّ، ومنه نفوذها على الموانئ، وتعتبر أنّ العلاقات السودانية مع كلّ من تركيا وإيران قد يمكّنهما من إقامة قواعد تهديد للنفوذ الإماراتي في تلك المنطقة.

من شأن تفاقم الخلاف السوداني الإماراتي أن يزيد الخناق على السودانيين وعذاباتهم، وأن يرفع من المعاناة في بلدهم

في آب الماضي، نقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” عن مسؤولين أوغنديّين قولهم إنّهم عثروا على أسلحة في طائرة شحن كان يفترض أن تنقل مساعدات إنسانية إماراتية إلى لاجئين سودانيين في تشاد.

كشف تقرير في صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية أنّه “تحت ستار إنقاذ اللاجئين، تدير الإمارات عمليّة سرّية متقنة من أجل دعم أحد أطراف الحرب المتصاعدة في السودان (قوّات حميدتي)، فتزوّده بأسلحة نوعيّة وطائرات من دون طيّار”. ونقلت عن مسؤولين أميركيين وأوروبيين وأفارقة أنّ القوّات الإماراتية تساهم في “معالجة المقاتلين المصابين، ونقل الحالات الأكثر خطورة جوّاً إلى أحد مستشفياتها العسكرية”. وأشارت إلى أنّ العملية تجري في “مطار ومستشفى يقعان في بلدة أمدجراس النائية في تشاد قرب الحدود السودانية، حيث تهبط طائرات الشحن الإماراتية بوتيرة شبه يومية منذ حزيران، بحسب صور الأقمار الاصطناعية والمسؤولين”.

إقرأ أيضاً: كنوز إيران تعزز ميول ترامب الديبلوماسية

وصفت أبو ظبي هذه العملية بأنّها إنسانيّة بحتة. لكن في العاشر من كانون الأوّل، طلبت وزارة الخارجية السودانية من 15 دبلوماسياً إماراتيّاً مغادرة البلاد خلال “48 ساعة” بعدما اعتبرتهم أشخاصاً غير مرغوب فيهم. في المقابل اتّهمت الإمارات الجيش السوداني بقصف سفارتها في الخرطوم.

من شأن تفاقم الخلاف السوداني الإماراتي أن يزيد الخناق على السودانيين وعذاباتهم، وأن يرفع من المعاناة في بلدهم. ثمّة مبادرات إقليمية عدّة للتخفيف من حدّة الأزمة، أبرزها تلك التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان للوساطة بين الجانبين، لكنّ الإمارات لا تزال تصرّ على التخلّص من الإسلاميين في الحكومة السودانية ومناقشة وضعيّة قوّات الدعم السريع في مرحلة ما بعد الحرب. في المقابل لا يبدي البرهان تشدّداً في تقليص نفوذ الإسلاميين، لكنّه يريد الحصول على الاعتراف الدولي وقيادة حكومة ما بعد الحرب، وأمّا المصالح الاقتصادية المتمثّلة بالموانىء والمشاريع الزراعية فلا يمانع إطلاق يد الإمارات فيها.

مواضيع ذات صلة

فوز ممداني لبنانيّاً: “قوى التّغيير” تحتفل مع سوروس

عاد الديمقراطيّون من بعيد، بفوز زهران ممداني في انتخابات عمدة نيويورك، في لحظة بدا فيها أنّ الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب أحكم السيطرة على المشهد السياسيّ…

الشّرع في البيت الأبيض: شرعيّة الصّورة الأقوى..

لم يكن استقبال الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب للرئيس السوريّ أحمد الشرع في البيت الأبيض حدثاً عابراً في سياق العلاقات الدوليّة، بل محطّة سياسيّة تستحقّ التوقّف…

رسائل طهران في كتاب “الحزب” إلى لبنان

ليس مهمّاً استطلاع أسباب توقيت الكتاب المفتوح الذي وجّهه “الحزب” إلى الرئاسات الثلاث قبل أيّام، ولا تحليل شكل ذلك الكتاب ومضمونه. فرسائل النصّ، وإن استغرقت…

بعضٌ منه في ذكرى رحيله

كانت حياته سلسلة من المآزق، منها ما كان مكرراً تعود عليه وتعايش مع مؤثراته، ومنها ما هو جديدٌ تماماً. لم يكن ليستأثر بقرارٍ سياسيٍ للخروج…